[ ص: 109 ] فصل
قال : . وهي شهود الحقيقة لا كسبا . ورفض الدعوى لا علما . والبقاء مع نور اليقظة لا تحفظا . الدرجة الثانية : استقامة الأحوال
يعني أن استقامة الحال بهذه الثلاثة .
أما شهود الحقيقة فالحقيقة حقيقتان : حقيقة كونية ، وحقيقة دينية ، يجمعهما حقيقة ثالثة ، وهي مصدرهما ومنشؤهما ، وغايتهما . وأكثر أرباب السلوك من المتأخرين : إنما يريدون بالحقيقة الحقيقة الكونية . وشهودها هو شهود تفرد الرب بالفعل . وأن ما سواه محل جريان أحكامه وأفعاله . فهو كالحفير الذي هو محل لجريان الماء حسب .
وعندهم أن شهود هذه الحقيقة والفناء فيها غاية السالكين .
ومنهم من يشهد حقيقة الأزلية والدوام ، وفناء الحادثات وطيها في ضمن بساط الأزلية والأبدية ، وتلاشيها في ذلك . فيشهدها معدومة ، ويشهد تفرد موجدها بالوجود الحق بالحق ، وأن وجود ما سواه رسوم وظلال .
فالأول : شهد تفرده بالأفعال . وهذا شهد تفرده بالوجود .
وصاحب الحقيقة الدينية في طور آخر . فإنه في مشهد الأمر والنهي ، والثواب والعقاب ، والموالاة والمعاداة ، والفرق بين ما يحبه الله ويرضاه ، وبين ما يبغضه ويسخطه . فهو في مقام الفرق الثاني الذي لا يحصل للعبد درجة الإسلام - فضلا عن مقام الإحسان - إلا به .
فالمعرض عنه صفحا لا نصيب له في الإسلام ألبتة ، وهو كالذي كان الجنيد يوصي به أصحابه ، فيقول : عليكم بالفرق الثاني . وإنما سمي ثانيا لأن الفرق الأول : فرق بالطبع والنفس . وهذا فرق بالأمر .
والجمع أيضا جمعان : جمع في فرق ، وهو جمع أهل الاستقامة والتوحيد . وجمع بلا فرق ، وهو جمع أهل الزندقة والإلحاد .
فالناس ثلاثة : صاحب فرق بلا جمع ، فهو مذموم ناقص مخذول .
وصاحب جمع بلا فرق . وهو جمع أهل الزندقة ، والإلحاد . فصاحبه ملحد زنديق .
[ ص: 110 ] وصاحب فرق وجمع . يشهد الفرق في الجمع ، والكثرة في الوحدة . فهو المستقيم الموحد الفارق . وهذا صاحب الحقيقة الثالثة ، الجامعة للحقيقتين الدينية والكونية . فشهود هذه الحقيقة الجامعة : هو عين الاستقامة .
وأما شهود الحقيقة الكونية ، أو الأزلية ، والفناء فيها : فأمر مشترك بين المؤمنين والكفار . فإن الكافر مقر بقدر الله وقضائه ، وأزليته وأبديته . فإذا استغرق في هذا الشهود وفني به عن سواه : فقد شهد الحقيقة .
وأما قوله : لا كسبا . أي يتحقق عند مشاهدة الحقيقة أن شهودها لم يكن بالكسب ؛ لأن الكسب من أعمال النفس . فالحقيقة لا تبدو مع بقاء النفس ؛ إذ الحقيقة فردانية أحدية نورانية . فلا بد من زوال ظلمة النفس ، ورؤية كسبها ، وإلا لم يشهد الحقيقة .
وأما رفض الدعوى لا علما ، فالدعوى نسبة الحال وغيره إلى نفسك وإنيتك . فالاستقامة لا تصح إلا بتركها ، سواء كانت حقا أو باطلا . فإن الدعوى الصادقة تطفئ نور المعرفة . فكيف بالكاذبة ؟
وأما قوله : لا علما ؛ أي لا يكون الحامل له على ترك الدعوى مجرد علمه بفساد الدعوى ، ومنافاتها للاستقامة . فإذا تركها يكون تركها لكون العلم قد نهى عنها . فيكون تاركا لها ظاهرا لا حقيقة ، أو تاركا لها لفظا ، قائما بها حالا ؛ لأنه يرى أنه قد قام بحق العلم في تركها . فيتركها تواضعا ، بل يتركها حالا وحقيقة . كما يترك من أحب شيئا تضره محبته حبه حالا وحقيقة . وإذا تحقق أنه ليس له من الأمر شيء - كما قال الله عز وجل لخير خلقه على الإطلاق : ( ليس لك من الأمر شيء ) - ترك الدعوى شهودا وحقيقة وحالا .
وأما البقاء مع نور اليقظة فهو الدوام في اليقظة ، وأن لا يطفئ نورها بظلمة الغفلة . بل يستديم يقظته . ويرى أنه في ذلك كالمجذوب المأخوذ عن نفسه ، حفظا من الله له . لا أن ذلك حصل بتحفظه واحترازه .
فهذه ثلاثة أمور : يقظة ، واستدامة لها ، وشهود أن ذلك بالحق سبحانه لا بك . فليس سبب بقائه في نور اليقظة بحفظه . بل بحفظ الله له .
وكأن الشيخ يشير إلى أن الاستقامة في هذه الدرجة لا تحصل بكسب . وإنما هو مجرد موهبة من الله . فإنه قال في الأولى " الاستقامة على الاجتهاد " وفي الثانية " استقامة [ ص: 111 ] الأحوال ، لا كسبا ولا تحفظا " .
ومنازعته في ذلك متوجهة . وأن ذلك مما يمكن تحصيله كسبا يتعاطى الأسباب التي تهجم بصاحبها على هذا المقام .
نعم ، الذي ينفى في هذا المقام : شهود الكسب ، وأن هذا حصل له بكسبه . فنفي الكسب شيء ونفي شهوده شيء آخر .
ولعل أن نشبع الكلام في هذا فيما يأتي إن شاء الله تعالى .