فصل
فلنذكر . وما قيل فيه . معنى التوكل ودرجاته
قال : التوكل عمل القلب . ومعنى ذلك أنه عمل قلبي . ليس بقول اللسان ، ولا عمل الجوارح ، ولا هو من باب العلوم والإدراكات . الإمام أحمد
[ ص: 115 ] ومن الناس من يجعله من باب المعارف والعلوم فيقول : هو علم القلب بكفاية الرب للعبد .
ومنهم من يفسره بالسكون وخمود حركة القلب . فيقول : التوكل هو انطراح القلب بين يدي الرب ، كانطراح الميت بين يدي الغاسل بقلبه كيف يشاء . وهو ترك الاختيار ، والاسترسال مع مجاري الأقدار .
قال سهل : التوكل الاسترسال مع الله مع ما يريد .
ومنهم من يفسره بالرضا . فيقول : هو الرضا بالمقدور .
قال : يقول أحدهم : توكلت على الله . يكذب على الله ، لو توكل على الله ، رضي بما يفعل الله . بشر الحافي
وسئل : متى يكون الرجل متوكلا ؟ فقال : إذا رضي بالله وكيلا . يحيى بن معاذ
ومنهم من يفسره بالثقة بالله ، والطمأنينة إليه . والسكون إليه .
قال ابن عطاء : التوكل أن لا يظهر فيك انزعاج إلى الأسباب ، مع شدة فاقتك إليها ، ولا تزول عن حقيقة السكون إلى الحق مع وقوفك عليها .
قال ذو النون : هو ترك تدبير النفس ، والانخلاع من الحول والقوة . وإنما يقوى العبد على التوكل إذا علم أن الحق سبحانه يعلم ويرى ما هو فيه .
[ ص: 116 ] وقال بعضهم : التوكل التعلق بالله في كل حال .
وقيل : التوكل أن ترد عليك موارد الفاقات ، فلا تسمو إلا إلى من إليه الكفايات .
وقيل : نفي الشكوك ، والتفويض إلى مالك الملوك .
وقال ذو النون : خلع الأرباب وقطع الأسباب .
يريد قطعها من تعلق القلب بها ، لا من ملابسة الجوارح لها .
ومنهم من جعله مركبا من أمرين أو أمور .
فقال : التوكل اضطراب بلا سكون ، وسكون بلا اضطراب . أبو سعيد الخراز
يريد : حركة ذاته في الأسباب بالظاهر والباطن ، وسكونا إلى المسبب ، وركونا إليه . ولا يضطرب قلبه معه . ولا تسكن حركته عن الأسباب الموصلة إلى رضاه .
وقال : هو طرح البدن في العبودية ، وتعلق القلب بالربوبية ، والطمأنينة إلى الكفاية . فإن أعطي شكر . وإن منع صبر . أبو تراب النخشبي
فجعله مركبا من خمسة أمور : القيام بحركات العبودية ، وتعلق القلب بتدبير الرب ، وسكونه إلى قضائه وقدره ، وطمأنينته وكفايته له ، وشكره إذا أعطى ، وصبره إذا منع .
قال : التوكل على الله بكمال الحقيقية ، كما وقع أبو يعقوب النهرجوري لإبراهيم [ ص: 117 ] الخليل عليه السلام في الوقت الذي قال لجبريل عليه السلام : أما إليك فلا ؛ لأنه غائب عن نفسه بالله . فلم ير مع الله غير الله .
وأجمع القوم على أن . فلا يصح التوكل إلا مع القيام بها ، وإلا فهو بطالة وتوكل فاسد . التوكل لا ينافي القيام بالأسباب
قال : من طعن في الحركة فقد طعن في السنة . ومن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان . سهل بن عبد الله
فالتوكل حال النبي صلى الله عليه وسلم ، والكسب سنته . فمن عمل على حاله فلا يتركن سنته ، وهذا معنى قول أبي سعيد : هو اضطراب بلا سكون ، وسكون بلا اضطراب وقول سهل أبين وأرفع .
وقيل : التوكل قطع علائق القلب بغير الله .
وسئل سهل عن التوكل ؟ فقال : قلب عاش مع الله بلا علاقة .
وقيل : التوكل هجر العلائق ، ومواصلة الحقائق .
وقيل : التوكل أن يستوي عندك الإكثار والإقلال .
وهذا من موجباته وآثاره ، لا أنه حقيقته .
وقيل : هو ترك كل سبب يوصلك إلى مسبب ، حتى يكون الحق هو المتولي لذلك .
وهذا صحيح من وجه ، باطل من وجه . فترك الأسباب المأمور بها قادح في التوكل . وقد تولى الحق إيصال العبد بها . وأما ترك الأسباب المباحة فإن تركها لما هو أرجح منها مصلحة فممدوح ، وإلا فهو مذموم .
وقيل : هو إلقاء النفس في العبودية ، وإخراجها من الربوبية .
يريد استرسالها مع الأمر ، وبراءتها من حولها وقوتها ، وشهود ذلك بها ، بل بالرب وحده .
ومنهم من قال : التوكل هو التسليم لأمر الرب وقضائه .
ومنهم من قال : هو التفويض إليه في كل حال .
ومنهم من جعل التوكل بداية ، والتسليم واسطة ، والتفويض نهاية .
قال أبو علي الدقاق : : التوكل ، ثم التسليم ، ثم [ ص: 118 ] التفويض . فالمتوكل يسكن إلى وعده ، وصاحب التسليم يكتفي بعلمه ، وصاحب التفويض يرضى بحكمه . فالتوكل بداية ، والتسليم واسطة ، والتفويض نهاية . فالتوكل صفة المؤمنين ، والتسليم صفة الأولياء . والتفويض صفة الموحدين . التوكل ثلاث درجات
التوكل صفة العوام . والتسليم صفة الخواص ، والتفويض صفة خاصة الخاصة .
التوكل صفة الأنبياء ، والتسليم صفة إبراهيم الخليل ، والتفويض صفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين .
هذا كله كلام الدقاق . ومعنى هذا التوكل اعتماد على الوكيل ، وقد يعتمد الرجل على وكيله مع نوع اقتراح عليه ، وإرادة وشائبة منازعة . فإذا سلم إليه زال عنه ذلك . ورضي بما يفعله وكيله . وحال المفوض فوق هذا . فإنه طالب مريد ممن فوض إليه ، ملتمس منه أن يتولى أموره . فهو رضا واختيار ، وتسليم واعتماد ، فالتوكل يندرج في التسليم ، وهو والتسليم يندرجان في التفويض . والله سبحانه وتعالى أعلم .