فصل
قال : الدرجة الثالثة :
nindex.php?page=treesubj&link=19651التوكل مع معرفة التوكل ، النازعة إلى الخلاص من علة التوكل . وهي أن يعلم أن ملكة الحق تعالى للأشياء هي ملكة عزة . لا يشاركه فيها مشارك . فيكل شركته إليه . فإن من ضرورة العبودية : أن يعلم العبد أن الحق سبحانه هو مالك الأشياء وحده .
يريد أن صاحب هذه الدرجة متى قطع الأسباب والطلب ، وتعدى تينك الدرجتين ، فتوكله فوق توكل من قبله . وهو إنما يكون بعد معرفته بحقيقة التوكل ، وأنه دون مقامه ، فتكون معرفته به وبحقيقته نازعة - أي باعثة وداعية - إلى تخلصه من علة التوكل ، أي لا يعرف علة التوكل حتى يعرف حقيقته . فحينئذ يعرف التوكل المعرفة التي تدعوه إلى التخلص من علته .
ثم بين المعرفة التي يعلم بها علة التوكل . فقال : أن يعلم أن ملكة الحق للأشياء
[ ص: 136 ] ملكة عزة ؛ أي ملكة امتناع وقوة وقهر ، تمنع أن يشاركه في ملكه لشيء من الأشياء مشارك . فهو العزيز في ملكه ، الذي لا يشاركه غيره في ذرة منه . كما هو المنفرد بعزته التي لا يشاركه فيها مشارك .
فالمتوكل يرى أن له شيئا قد وكل الحق فيه ، وأنه سبحانه صار وكيله عليه . وهذا مخالف لحقيقة الأمر ؛ إذ ليس لأحد من الأمر مع الله شيء . فلهذا قال : لا يشاركه فيه مشارك . فيكل شركته إليه . فلسان الحال يقول لمن جعل الرب تعالى وكيله : في ماذا وكلت ربك ؟ أفيما هو له وحده ؟ أو لك وحدك ؟ أو بينكما ؟ فالثاني والثالث ممتنع بتفرده بالملك وحده . والتوكيل في الأول ممتنع ، فكيف توكله فيما ليس لك منه شيء ألبتة ؟ .
فيقال : هاهنا أمران : توكل ، وتوكيل . فالتوكل : محض الاعتماد والثقة والسكون إلى من له الأمر كله . وعلم العبد بتفرد الحق تعالى وحده بملك الأشياء كلها ، وأنه ليس له مشارك في ذرة من ذرات الكون : من أقوى أسباب توكله ، وأعظم دواعيه .
فإذا تحقق ذلك علما ومعرفة . وباشر قلبه حالا : لم يجد بدا من اعتماد قلبه على الحق وحده ، وثقته به ، وسكونه إليه وحده ، وطمأنينته به وحده ، لعلمه أن حاجاته وفاقاته وضروراته ، وجميع مصالحه كلها : بيده وحده . لا بيد غيره . فأين يجد قلبه مناصا من التوكل بعد هذا ؟
فعلة التوكل حينئد : التفات قلبه إلى من ليس له شركة في ملك الحق . ولا يملك مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض . هذه علة توكله . فهو يعمل على تخليص توكله من هذه العلة .
نعم ، ومن علة أخرى . وهي رؤية توكله . فإنه التفات إلى عوالم نفسه .
وعلة ثالثة : وهي صرفه قوة توكله إلى شيء غيره أحب إلى الله منه .
فهذه العلل الثلاث : هي علل التوكيل .
وأما التوكل : فليس المراد منه إلا مجرد التفويض . وهو من أخص مقامات العارفين . كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980377اللهم إني أسلمت نفسي إليك ، وفوضت أمري إليك ، وقال تعالى عن مؤمن آل
فرعون : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=44وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد )
[ ص: 137 ] فكان جزاء هذا التفويض قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=45فوقاه الله سيئات ما مكروا ) ، فإن كان التوكل معلولا بما ذكره ، فالتفويض أيضا كذلك . وليس فليس .
ولولا أن الحق لله ورسوله ، وأن كل ما عدا الله ورسوله ، فمأخوذ من قوله ومتروك ، وهو عرضة الوهم والخطإ ، لما اعترضنا على من لا نلحق غبارهم ، ولا نجري معهم في مضمارهم ، ونراهم فوقنا في مقامات الإيمان ، ومنازل السائرين ، كالنجوم الدراري . ومن كان عنده علم فليرشدنا إليه . ومن رأى في كلامنا زيغا ، أو نقصا وخطأ ، فليهد إلينا الصواب . نشكر له سعيه . ونقابله بالقبول والإذعان والانقياد والتسليم . والله أعلم . وهو الموفق .
فَصْلٌ
قَالَ : الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ :
nindex.php?page=treesubj&link=19651التَّوَكُّلُ مَعَ مَعْرِفَةِ التَّوَكُّلِ ، النَّازِعَةِ إِلَى الْخَلَاصِ مِنْ عِلَّةِ التَّوَكُّلِ . وَهِيَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مِلْكَةَ الْحَقِّ تَعَالَى لِلْأَشْيَاءِ هِيَ مِلْكَةُ عَزَّةٍ . لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا مُشَارِكٌ . فَيَكِلُ شَرِكَتَهُ إِلَيْهِ . فَإِنَّ مِنْ ضَرُورَةِ الْعُبُودِيَّةِ : أَنْ يَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ هُوَ مَالِكُ الْأَشْيَاءِ وَحْدَهُ .
يُرِيدُ أَنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ مَتَى قَطَعَ الْأَسْبَابَ وَالطَّلَبَ ، وَتَعَدَّى تَيْنِكَ الدَّرَجَتَيْنِ ، فَتَوَكُّلُهُ فَوْقَ تَوَكُّلِ مَنْ قَبْلَهُ . وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِحَقِيقَةِ التَّوَكُّلِ ، وَأَنَّهُ دُونَ مَقَامِهِ ، فَتَكُونُ مَعْرِفَتُهُ بِهِ وَبِحَقِيقَتِهِ نَازِعَةً - أَيْ بَاعِثَةً وَدَاعِيَةً - إِلَى تَخَلُّصِهِ مِنْ عِلَّةِ التَّوَكُّلِ ، أَيْ لَا يَعْرِفُ عِلَّةَ التَّوَكُّلِ حَتَّى يَعْرِفَ حَقِيقَتَهُ . فَحِينَئِذٍ يَعْرِفُ التَّوَكُّلَ الْمَعْرِفَةَ الَّتِي تَدْعُوهُ إِلَى التَّخَلُّصِ مِنْ عِلَّتِهِ .
ثُمَّ بَيَّنَ الْمَعْرِفَةَ الَّتِي يَعْلَمُ بِهَا عِلَّةَ التَّوَكُّلِ . فَقَالَ : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مِلْكَةَ الْحَقِّ لِلْأَشْيَاءِ
[ ص: 136 ] مَلِكَةُ عَزَّةٍ ؛ أَيْ مِلْكَةُ امْتِنَاعٍ وَقُوَّةٍ وَقَهْرٍ ، تَمْنَعُ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي مُلْكِهِ لِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ مُشَارِكٌ . فَهُوَ الْعَزِيزُ فِي مُلْكِهِ ، الَّذِي لَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ فِي ذَرَّةٍ مِنْهُ . كَمَا هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِعِزَّتِهِ الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا مُشَارِكٌ .
فَالْمُتَوَكِّلُ يَرَى أَنَّ لَهُ شَيْئًا قَدْ وَكَّلَ الْحَقَّ فِيهِ ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ صَارَ وَكَيْلَهُ عَلَيْهِ . وَهَذَا مُخَالِفٌ لِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ ؛ إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَمْرِ مَعَ اللَّهِ شَيْءٌ . فَلِهَذَا قَالَ : لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ مُشَارِكٌ . فَيَكِلُ شَرِكَتَهُ إِلَيْهِ . فَلِسَانُ الْحَالِ يَقُولُ لِمَنْ جَعَلَ الرَّبَّ تَعَالَى وَكِيلَهُ : فِي مَاذَا وَكَّلْتُ رَبَّكَ ؟ أَفِيمَا هُوَ لَهُ وَحْدَهُ ؟ أَوْ لَكَ وَحْدَكَ ؟ أَوْ بَيْنَكُمَا ؟ فَالثَّانِي وَالثَّالِثُ مُمْتَنِعٌ بِتَفَرُّدِهِ بِالْمُلْكِ وَحْدَهُ . وَالتَّوْكِيلُ فِي الْأَوَّلِ مُمْتَنِعٌ ، فَكَيْفَ تُوَكِّلُهُ فِيمَا لَيْسَ لَكَ مِنْهُ شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ ؟ .
فَيُقَالُ : هَاهُنَا أَمْرَانِ : تَوَكُّلٌ ، وَتَوْكِيلٌ . فَالتَّوَكُّلُ : مَحْضُ الِاعْتِمَادِ وَالثِّقَةِ وَالسُّكُونِ إِلَى مَنْ لَهُ الْأَمْرُ كُلُّهُ . وَعِلْمُ الْعَبْدُ بِتَفَرُّدِ الْحَقِّ تَعَالَى وَحْدَهُ بِمِلْكِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مُشَارِكٌ فِي ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِ الْكَوْنِ : مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ تَوَكُّلِهِ ، وَأَعْظَمِ دَوَاعِيهِ .
فَإِذَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً . وَبَاشَرَ قَلْبَهُ حَالًا : لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنَ اعْتِمَادِ قَلْبِهِ عَلَى الْحَقِّ وَحْدَهُ ، وَثِقَتِهِ بِهِ ، وَسُكُونِهِ إِلَيْهِ وَحْدَهُ ، وَطُمَأْنِينَتِهِ بِهِ وَحْدَهُ ، لِعِلْمِهِ أَنَّ حَاجَاتِهِ وَفَاقَاتِهِ وَضَرُورَاتِهِ ، وَجَمِيعَ مَصَالِحِهِ كُلِّهَا : بِيَدِهِ وَحْدَهُ . لَا بِيَدِ غَيْرِهِ . فَأَيْنَ يَجِدُ قَلْبَهُ مَنَاصًا مِنَ التَّوَكُّلِ بَعْدَ هَذَا ؟
فَعِلَّةُ التَّوَكُّلِ حِينَئِدٍ : الْتِفَاتُ قَلْبِهِ إِلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ شِرْكَةً فِي مُلْكِ الْحَقِّ . وَلَا يَمْلِكُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ . هَذِهِ عِلَّةُ تَوَكُّلِهِ . فَهُوَ يَعْمَلُ عَلَى تَخْلِيصِ تَوَكُّلِهِ مِنْ هَذِهِ الْعِلَّةِ .
نَعَمْ ، وَمِنْ عِلَّةٍ أُخْرَى . وَهِيَ رُؤْيَةُ تَوَكُّلِهِ . فَإِنَّهُ الْتِفَاتٌ إِلَى عَوَالِمِ نَفْسِهِ .
وَعِلَّةٌ ثَالِثَةٌ : وَهِيَ صَرْفُهُ قُوَّةَ تَوَكُّلِهِ إِلَى شَيْءٍ غَيْرِهِ أَحَبِّ إِلَى اللَّهِ مِنْهُ .
فَهَذِهِ الْعِلَلُ الثَّلَاثُ : هِيَ عِلَلُ التَّوْكِيلِ .
وَأَمَّا التَّوَكُّلُ : فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ إِلَّا مُجَرَّدَ التَّفْوِيضِ . وَهُوَ مِنْ أَخَصِّ مَقَامَاتِ الْعَارِفِينَ . كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980377اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْلَمْتُ نَفَسِي إِلَيْكَ ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ ، وَقَالَ تَعَالَى عَنْ مُؤْمِنِ آلِ
فِرْعَوْنَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=44وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ )
[ ص: 137 ] فَكَانَ جَزَاءُ هَذَا التَّفْوِيضِ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=45فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا ) ، فَإِنْ كَانَ التَّوَكُّلُ مَعْلُولًا بِمَا ذَكَرَهُ ، فَالتَّفْوِيضُ أَيْضًا كَذَلِكَ . وَلَيْسَ فَلَيْسَ .
وَلَوْلَا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَأَنَّ كُلَّ مَا عَدَا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، فَمَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ وَمَتْرُوكٌ ، وَهُوَ عُرْضَةُ الْوَهْمِ وَالْخَطَإِ ، لَمَا اعْتَرَضْنَا عَلَى مَنْ لَا نَلْحَقُ غُبَارَهُمْ ، وَلَا نَجْرِي مَعَهُمْ فِي مِضْمَارِهِمْ ، وَنَرَاهُمْ فَوْقَنَا فِي مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ ، وَمَنَازِلِ السَّائِرِينَ ، كَالنُّجُومِ الدَّرَارِيِّ . وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ فَلْيُرْشِدْنَا إِلَيْهِ . وَمَنْ رَأَى فِي كَلَامِنَا زَيْغًا ، أَوْ نَقْصًا وَخَطَأً ، فَلْيَهْدِ إِلَيْنَا الصَّوَابَ . نَشْكُرُ لَهُ سَعْيَهُ . وَنُقَابِلُهُ بِالْقَبُولِ وَالْإِذْعَانِ وَالِانْقِيَادِ وَالتَّسْلِيمِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَهُوَ الْمُوَفِّقُ .