قوله : فإن التوكل بعد وقوع السبب ، والتفويض قبل وقوعه وبعده .
يعني بالسبب : الاكتساب . فالمفوض قد فوض أمره إلى الله قبل اكتسابه وبعده . والمتوكل قد قام بالسبب . وتوكل فيه على الله . فصار التفويض أوسع .
فيقال : والتوكل قد يكون قبل السبب ومعه وبعده . فيتوكل على الله أن يقيمه في سبب يوصله إلى مطلوبه . فإذا قام به توكل على الله حال مباشرته . فإذا أتمه توكل على الله في حصول ثمراته . فيتوكل على الله قبله ، ومعه ، وبعده .
فعلى هذا : هو أوسع من التفويض على ما ذكر .
قوله : وهو عين الاستسلام ؛ أي التفويض عين الانقياد بالكلية إلى الحق سبحانه . ولا يبالي أكان ما يقضي له الخير . أم خلافه ؟ والمتوكل يتوكل على الله في مصالحه .
وهذا القدر هو الذي لحظه القوم في هضم مقام التوكل ، ورفع مقام التفويض عليه .
وجوابه من وجهين .
أحدهما : أن المفوض لا يفوض أمره إلى الله إلا لإرادته أن يقضي له ما هو خير له في معاشه ومعاده . وإن كان المقضي له خلاف ما يظنه خيرا . فهو راض به ؛ لأنه يعلم أنه خير له . وإن خفيت عليه جهة المصلحة فيه . وهكذا حال المتوكل سواء ، بل هو أرفع من المفوض ؛ لأن معه من عمل القلب ما ليس مع المفوض . فإن المتوكل مفوض وزيادة . فلا يستقيم مقام التوكل إلا بالتفويض . فإنه إذا فوض أمره إليه اعتمد بقلبه كله عليه بعد تفويضه .
ونظير هذا : أن من فوض أمره إلى رجل ، وجعله إليه . فإنه يجد من نفسه - بعد تفويضه - اعتمادا خاصا ، وسكونا وطمأنينة إلى المفوض إليه أكثر مما كان قبل التفويض . وهذا هو حقيقة التوكل .
[ ص: 140 ] الوجه الثاني : أن أهم مصالح المتوكل : حصول مراضي محبوبه ومحابه . فهو يتوكل عليه في تحصيلها له . فأي مصلحة أعظم من هذه ؟
وأما التفويض : فهو تفويض حاجات العبد المعيشية وأسبابها إلى الله . فإنه لا يفوض إليه محابه . والمتوكل يتوكل عليه في محابه .
والوهم إنما دخل من حيث يظن الظان : أن التوكل مقصور على معلوم الرزق ، وقوة البدن ، وصحة الجسم . ولا ريب أن هذا التوكل ناقص بالنسبة إلى التوكل في إقامة الدين والدعوة إلى الله .