فصل منزلة الإيثار  
ومن منازل  إياك نعبد وإياك نستعين   منزلة الإيثار      . قال الله تعالى :  ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون      .  
فالإيثار ضد الشح . فإن المؤثر على نفسه تارك لما هو محتاج إليه . والشحيح : حريص على ما ليس بيده . فإذا حصل بيده شيء شح عليه . وبخل بإخراجه . فالبخل ثمرة الشح . والشح يأمر بالبخل ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :  إياكم والشح . فإن الشح أهلك من كان قبلكم . أمرهم بالبخل فبخلوا . وأمرهم بالقطيعة فقطعوا     .  
فالبخيل : من أجاب داعي الشح . والمؤثر : من أجاب داعي الجود .  
كذلك السخاء عما في أيدي الناس هو السخاء . وهو أفضل من سخاء البذل .  
قال   عبد الله بن المبارك     : سخاء النفس عما في أيدي الناس أفضل من سخاء النفس بالبذل .  
 [ ص: 278 ] وهذا المنزل : هو منزل الجود والسخاء والإحسان .  
وسمي بمنزل الإيثار لأنه أعلى مراتبه ، فإن المراتب ثلاثة .  
إحداها : أن لا ينقصه البذل ، ولا يصعب عليه . فهو منزلة السخاء .  
الثانية : أن يعطي الأكثر ، ويبقي له شيئا ، أو يبقي مثل ما أعطى . فهو الجود .  
الثالثة : أن يؤثر غيره بالشيء مع حاجته إليه ، وهو مرتبة الإيثار وعكسها الأثرة وهو استئثاره عن أخيه بما هو محتاج إليه . وهي المرتبة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم  للأنصار   رضي الله عنهم :  إنكم ستلقون بعدي أثرة . فاصبروا حتى تلقوني على الحوض  والأنصار      : هم الذين وصفهم الله بالإيثار في قوله :  ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة   فوصفهم بأعلى مراتب السخاء ، وكان ذلك فيهم معروفا .  
وكان   قيس بن سعد بن عبادة  رضي الله عنهما من الأجواد المعروفين . حتى إنه مرض مرة ، فاستبطأ إخوانه في العيادة . فسأل عنهم ؟ فقالوا : إنهم كانوا يستحيون مما لك عليهم من الدين . فقال : أخزى الله مالا يمنع الإخوان من الزيارة . ثم أمر مناديا ينادي : من كان  لقيس  عليه مال فهو منه في حل . فما أمسى حتى كسرت عتبة بابه ، لكثرة من عاده .  
وقالوا له يوما : هل رأيت أسخى منك ؟ قال : نعم . نزلنا بالبادية على امرأة . فحضر زوجها . فقالت : إنه نزل بك ضيفان . فجاء بناقة فنحرها ، وقال : شأنكم ؟ فلما كان من الغد جاء بأخرى فنحرها . فقلنا : ما أكلنا من التي نحرت البارحة إلا اليسير . فقال : إني لا أطعم ضيفاني البائت . فبقينا عنده يومين أو ثلاثة ، والسماء تمطر . وهو يفعل ذلك . فلما أردنا الرحيل وضعنا مائة دينار في بيته ، وقلنا للمرأة : اعتذري لنا إليه . ومضينا . فلما طلع النهار إذا نحن برجل يصيح خلفنا : قفوا . أيها الركب اللئام . أعطيتموني ثمن قراي ؟ ثم إنه لحقنا ، وقال : لتأخذنه أو لأطاعننكم برمحي . فأخذناه وانصرف .  
فتأمل سر التقدير ، حيث قدر الحكيم الخبير - سبحانه - استئثار الناس على  الأنصار   بالدنيا - وهم أهل الإيثار - ليجازيهم على إيثارهم إخوانهم في الدنيا على نفوسهم بالمنازل العالية في جنات عدن على الناس . فتظهر حينئذ فضيلة إيثارهم ودرجته ويغبطهم من      [ ص: 279 ] استأثر عليهم بالدنيا أعظم غبطة . وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .  
فإذا رأيت الناس يستأثرون عليك - مع كونك من أهل الإيثار - فاعلم أنه لخير يراد بك . والله سبحانه وتعالى أعلم .  
				
						
						
