فصل منزلة الخلق  
ومن منازل  إياك نعبد وإياك نستعين   منزلة الخلق .  
قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم :  وإنك لعلى خلق عظيم       .  
قال   ابن عباس  و  مجاهد     : لعلى دين عظيم ، لا دين أحب إلي ولا أرضى عندي منه . وهو دين الإسلام .  
وقال  الحسن  رضي الله عنه : هو آداب القرآن .  
وقال  قتادة     : هو ما كان يأمر به من أمر الله . وينهى عنه من نهي الله . والمعنى : إنك لعلى الخلق الذي آثرك الله به في القرآن .  
وفي الصحيحين :  أن   هشام بن حكيم  سأل  عائشة  رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت : كان خلقه القرآن . فقال : لقد هممت أن أقوم ولا أسأل شيئا .  
وقد جمع الله له مكارم الأخلاق في قوله تعالى :  خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين    [ ص: 290 ] قال   جعفر بن محمد     : أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق . وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية . وقد ذكر : أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  لجبريل      :  ما هذا ؟ قال : لا أدري حتى أسأل ، فسأل . ثم رجع إليه . فقال : إن الله يأمرك أن تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك     .  
ولا ريب أن للمطاع مع الناس ثلاثة أحوال .  
أحدها : أمرهم ونهيهم بما فيه مصلحتهم .  
الثاني : أخذه منهم ما يبذلونه مما عليهم من الطاعة .  
الثالث : أن الناس معه قسمان : موافق له موال ، ومعاد له معارض . وعليه في كل واحد من هذه واجب .  
فواجبه في أمرهم ونهيهم : أن يأمر بالمعروف . وهو المعروف الذي به صلاحهم وصلاح شأنهم . وينهاهم عن ضده .  
وواجبه فيما يبذلونه له من الطاعة : أن يأخذ منهم ما سهل عليهم ، وطوعت له به أنفسهم ، سماحة واختيارا . ولا يحملهم على العنت والمشقة فيفسدهم .  
وواجبه عند جهل الجاهلين عليه : الإعراض عنهم . وعدم مقابلتهم بالمثل والانتقام منهم لنفسه . فقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم :  خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين   قال  عبد الله بن الزبير  رضي الله عنهما : أمر الله نبيه أن يأخذ العفو من أخلاق الناس .  وقال  مجاهد     : يعني خذ العفو من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تخسيس ، مثل قبول الأعذار ، والعفو والمساهلة ، وترك الاستقصاء في البحث ، والتفتيش عن حقائق بواطنهم .  
 [ ص: 291 ] وقال   ابن عباس  رضي الله عنهما : خذ ما عفا لك من أموالهم . وهو الفاضل عن العيال ، وذلك معنى قوله تعالى :  ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو      .  
ثم قال تعالى  وأمر بالعرف   وهو كل معروف .  وأعرفه : التوحيد . ثم حقوق العبودية وحقوق العبيد .  
ثم قال تعالى  وأعرض عن الجاهلين   يعني إذا سفه عليك الجاهل فلا تقابله بالسفه . كقوله تعالى :  وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما   وعلى هذا فليست بمنسوخة . بل يعرض عنه مع إقامة حق الله عليه . ولا ينتقم لنفسه .  
وهكذا كان خلقه صلى الله عليه وسلم . قال  أنس  رضي الله عنه :  كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا     . وقال :  ما مسست ديباجا ولا حريرا ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولا شممت رائحة قط أطيب من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين . فما قال لي قط : أف . ولا قال لشيء فعلته : لم فعلته ؟ ولا لشيء لم أفعله : ألا فعلت كذا ؟  متفق عليهما .  
وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم  أن البر : هو حسن الخلق     .  
وفي صحيح  مسلم  عن  النواس بن سمعان  رضي الله عنه قال  سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم ؟ فقال : البر حسن الخلق . والإثم ما حاك في صدرك . وكرهت أن يطلع عليه الناس     .  
 [ ص: 292 ] فقابل البر بالإثم . وأخبر : أن البر حسن الخلق . والإثم : حواز الصدور . وهذا يدل على أن حسن الخلق : هو الدين كله . وهو حقائق الإيمان ، وشرائع الإسلام . ولهذا قابله بالإثم .  
وفي حديث آخر  البر : ما اطمأنت إليه النفس ، والإثم ما حاك في الصدر  ، وقد فسر حسن الخلق بأنه البر . فدل على أن حسن الخلق : طمأنينة النفس والقلب . والإثم حواز الصدور ، وما حاك فيها ، واسترابت به . وهذا غير حسن الخلق وسوئه في عرف كثير من الناس . كما سيأتي في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  خياركم : أحاسنكم أخلاقا     .  
وفي  الترمذي  عن   أبي الدرداء  رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم  ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق . وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء .  قال  الترمذي     : حديث حسن صحيح .  
وفيه أيضا - وصححه - عن   أبي هريرة  رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة ؟ فقال : تقوى الله ، وحسن الخلق . وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار ؟ فقال : الفم والفرج     .  
 [ ص: 293 ] وفيه أيضا عن  عائشة  رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم - وصححه -  إن من أكمل المؤمنين إيمانا : أحسنهم خلقا . وخياركم : خياركم لنسائهم     .  
وفي الصحيح عن  عائشة  عنه صلى الله عليه وسلم  إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم  رواه  أبو داود     .  
وعن   ابن عمر  رضي الله عنهما عنه صلى الله عليه وسلم  أنا زعيم ببيت في ربض الجنة : لمن ترك المراء وإن كان محقا . وببيت في وسط الجنة : لمن ترك الكذب وإن كان مازحا ، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه  رواه   الطبراني  وإسناده صحيح .  
فجعل البيت العلوي جزاء لأعلى المقامات الثلاثة . وهي حسن الخلق . والأوسط لأوسطها . وهو ترك الكذب . والأدنى لأدناها وهو ترك المماراة ، وإن كان معه حق . ولا ريب أن حسن الخلق مشتمل على هذا كله .  
وفي  الترمذي  عن  جابر  رضي الله عنه عنه صلى الله عليه وسلم  إن من أحبكم إلي ، وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة : أحاسنكم أخلاقا . وإن من أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة : الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون . قالوا : يا رسول الله . قد علمنا الثرثارون والمتشدقون . فما المتفيهقون ؟ قال : المتكبرون .  الثرثار : هو كثير الكلام بغير فائدة دينية . والمتشدق :      [ ص: 294 ] المتكلم بملء فيه تفاصحا وتعاظما وتطاولا ، وإظهارا لفضله على غيره . وأصله من الفهق . وهو الامتلاء . 
				
						
						
