فصل
نافع جدا عظيم النفع للسالك . يوصله عن قريب ، ويسيره بأخلاقه التي لا يمكنه إزالتها . فإن أصعب ما على الطبيعة الإنسانية : . وأصحاب الرياضات الصعبة والمجاهدات الشاقة إنما عملوا عليها ، ولم يظفر أكثرهم بتبديلها . لكن النفس اشتغلت بتلك الرياضات عن ظهور سلطانها . فإذا جاء سلطان تلك الأخلاق وبرز : كسر جيوش الرياضة وشتتها . واستولى على مملكة الطبع . تغيير الأخلاق التي طبعت النفوس عليها
وهذا فصل يصل به السالك مع تلك الأخلاق . ولا يحتاج إلى علاجها وإزالتها . ويكون سيره أقوى وأجل وأسرع من سير العامل على إزالتها .
ونقدم قبل هذا مثلا نضربه . مطابقا لما نريده . وهو : نهر جار في صببه ومنحدره ، ومنته إلى تغريق أرض وعمران ودور . وأصحابها يعلمون أنه لا ينتهي حتى يخرب دورهم . ويتلف أراضيهم وأموالهم . فانقسموا ثلاث فرق .
فرقة صرفت قواها وقوى أعمالها إلى سكره وحبسه وإيقافه . فلا تصنع هذه الفرقة كبير أمر . فإنه يوشك أن يجتمع ثم يحمل على السكر ، فيكون إفساده وتخريبه أعظم .
وفرقة رأت هذه الحالة . وعلمت أنه لا يغني عنها شيئا . فقالت : لا خلاص من محذوره إلا بقطعه من أصل الينبوع . فرامت قطعه من أصله . فتعذر عليها ذلك غاية التعذر ، وأبت الطبيعة النهرية عليهم ذلك أشد الإباء ، فهم دائما في قطع الينبوع ، وكلما سدوه من موضع نبع من موضع ، فاشتغل هؤلاء بشأن هذا النهر عن الزراعات والعمارات وغرس الأشجار .
فجاءت فرقة ثالثة ، خالفت رأي الفرقتين . وعلموا أنهم قد ضاع عليهم كثير من مصالحهم . فأخذوا في صرف ذلك النهر عن مجراه المنتهي إلى العمران ، فصرفوه إلى موضع ينتفعون بوصوله إليه . ولا يتضررون به . فصرفوه إلى أرض قابلة للنبات . وسقوها به . فأنبتت أنواع العشب والكلأ والثمار المختلفة الأصناف ، فكانت هذه الفرقة هم أصوب الفرق في شأن هذا النهر .
[ ص: 298 ] فإذا تبين هذا المثل ، . وهي الإرادية . فالله سبحانه قد اقتضت حكمته : أن ركب الإنسان - بل وسائر الحيوان - على طبيعة محمولة على قوتين : غضبية . وشهوانية
وهاتان القوتان هما الحاملتان لأخلاق النفس وصفاتها . وهما مركوزتان في جبلة كل حيوان . فبقوة الشهوة والإرادة : يجذب المنافع إلى نفسه . وبقوة الغضب : يدفع المضار عنها . فإذا استعمل الشهوة في طلب ما يحتاج إليه : تولد منها الحرص . وإذا استعمل الغضب في دفع المضرة عن نفسه : تولد منه القوة والغيرة . فإذا عجز عن ذلك الضار : أورثه قوة الحقد . وإن أعجزه وصول ما يحتاج إليه ، ورأى غيره مستبدا به : أورثه الحسد . فإن ظفر به : أورثته شدة شهوته وإرادته : خلق البخل والشح . وإن اشتد حرصه وشهوته على الشيء ، ولم يمكنه تحصيله إلا بالقوة الغضبية ، فاستعملها فيه : أورثه ذلك العدوان ، والبغي والظلم . ومنه يتولد : الكبر والفخر والخيلاء . فإنها أخلاق متولدة من بين قوتي الشهوة والغضب ، وتزوج أحدهما بصاحبه .
فإذا تبين هذا : فالنهر مثال هاتين القوتين . وهو منصب في جدول الطبيعة ومجراها إلى دور القلب وعمرانه وحواصله ، يخربها ويتلفها ولا بد . فالنفوس الجاهلة الظالمة تركته ومجراه . فخرب ديار الإيمان . وقلع آثاره . وهدم عمرانه . وأنبت موضعها كل شجرة خبيثة ، من حنظل وضريع وشوك وزقوم . وهو الذي يأكله أهل النار يوم القيامة يوم المعاد .
وأما الفاضلة : فإنها رأت ما يئول إليه أمر هذا النهر . فافترقوا ثلاث فرق . النفوس الزكية
فأصحاب الرياضات والمجاهدات ، والخلوات والتمرينات : راموا قطعه من ينبوعه . فأبت عليهم ذلك حكمة الله تعالى ، وما طبع عليه الجبلة البشرية . ولم تنقد له الطبيعة . فاشتد القتال . ودام الحرب . وحمي الوطيس . وصارت الحرب دولا وسجالا . وهؤلاء صرفوا قواهم إلى مجاهدة النفس على إزالة تلك الصفات .
وفرقة أعرضوا عنها . وشغلوا نفوسهم بالأعمال . ولم يجيبوا دواعي تلك الصفات مع تخليتهم إياها على مجراها ، لكن لم يمكنوا نهرها من إفساد عمرانهم . بل اشتغلوا بتحصين العمران ، وإحكام بنائه وأساسه ورأوا أن ذلك النهر لا بد أن يصل إليه . فإذا وصل وصل إلى بناء محكم فلم يهدمه . بل أخذ عنه يمينا وشمالا . فهؤلاء صرفوا قوة عزيمتهم وإرادتهم في العمارة ، وإحكام البناء . وأولئك صرفوها في قطع المادة الفاسدة من أصلها ، خوفا من هدم البناء .
[ ص: 299 ] وسألت يوما شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عن هذه المسألة ، وقطع الآفات ، والاشتغال بتنقية الطريق وتنظيفها ؟
فقال لي جملة كلامه : النفس مثل الباطوس - وهو جب القذر - كلما نبشته ظهر وخرج . ولكن إن أمكنك أن تسقف عليه ، وتعبره وتجوزه ، فافعل ، ولا تشتغل بنبشه . فإنك لن تصل إلى قراره . وكلما نبشت شيئا ظهر غيره .
فقلت : سألت عن هذه المسألة بعض الشيوخ ؟ فقال لي : مثال آفات النفس مثال الحيات والعقارب التي في طريق المسافر . فإن أقبل على تفتيش الطريق عنها ، والاشتغال بقتلها : انقطع . ولم يمكنه السفر قط . ولكن لتكن همتك المسير ، والإعراض عنها ، وعدم الالتفات إليها . فإذا عرض لك فيها ما يعوقك عن المسير فاقتله . ثم امض على سيرك .
فاستحسن شيخ الإسلام ذلك جدا . وأثنى على قائله .
إذا تبين هذا . فهذه الفرقة الثالثة : رأت أن هذه الصفات ما خلقت سدى ولا عبثا . وأنها بمنزلة ماء يسقى به الورد ، والشوك ، والثمار ، والحطب ، وأنها صوان وأصداف لجواهر منطوية عليها . وأن ما خاف منها أولئك هو نفس سبب الفلاح والظفر . فرأوا أن الكبر نهر يسقى به العلو والفخر ، والبطر والظلم والعدوان . ويسقى به علو الهمة ، والأنفة ، والحمية ، والمراغمة لأعداء الله ، وقهرهم والعلو عليهم . وهذه درة في صدفته . فصرفوا مجراه إلى هذا الغراس . واستخرجوا هذه الدرة من صدفته . وأبقوه على حاله في نفوسهم . لكن استعملوه حيث يكون استعماله أنفع . وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم أبا دجانة يتبختر بين الصفين . فقال : إنها لمشية يبغضها الله ، إلا في مثل هذا الموضع .
فانظر كيف خلى مجرى هذه الصفة وهذا الخلق يجري في أحسن مواضعه .
وفي الحديث الآخر - وأظنه في المسند - . إن من الخيلاء ما يحبها الله . ومنها ما يبغضها الله . فالخيلاء التي يحبها الله : اختيال الرجل في الحرب ، وعند الصدقة
فانظر كيف صارت الصفة المذمومة عبودية ؟ وكيف استحال القاطع موصلا ؟
فصاحب الرياضات ، والعامل بطريق الرياضات والمجاهدات ، والخلوات : هيهات [ ص: 300 ] هيهات ، إنما يوقعه ذلك في الآفات ، والشبهات ، والضلالات . فإن تزكية النفوس مسلم إلى الرسل . وإنما بعثهم الله لهذه التزكية وولاهم إياها . وجعلها على أيديهم دعوة ، وتعليما وبيانا ، وإرشادا ، لا خلقا ولا إلهاما . فهم المبعوثون لعلاج نفوس الأمم . قال الله تعالى : هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين وقال تعالى : كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون .
وتزكية النفوس : أصعب من علاج الأبدان وأشد . فمن زكى نفسه بالرياضة والمجاهدة والخلوة ، التي لم يجئ بها الرسل : فهو كالمريض الذي عالج نفسه برأيه ، وأين يقع رأيه من معرفة الطبيب ؟ فالرسل أطباء القلوب . فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريقهم . وعلى أيديهم ، وبمحض الانقياد ، والتسليم لهم . والله المستعان .
فإن قلت : أو هو أمر خارج عن الكسب ؟ . هل يمكن أن يقع الخلق كسبيا ،
قلت : يمكن أن يقع كسبيا بالتخلق والتكلف . حتى يصير له سجية وملكة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس رضي الله عنه . إن فيك لخلقين يحبهما الله : الحلم ، والأناة . فقال : أخلقين تخلقت بهما . أم جبلني الله عليهما ؟ فقال : بل جبلك الله عليهما . فقال : الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله
فدل على أن . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعاء الاستفتاح من الخلق : ما هو طبيعة وجبلة ، وما هو مكتسب فذكر الكسب والقدر . والله أعلم . اللهم اهدني لأحسن الأخلاق . لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، واصرف عني سيئها ، لا يصرف عني سيئها إلا أنت