فصل [ ص: 320 ] قال : ولا يصح ذلك إلا بأن يعلم : أن النجاة في البصيرة ، والاستقامة بعد الثقة . وأن البينة وراء الحجة .
يقول : إن ما ذكرناه من التواضع للدين بهذه الأمور الثلاثة :
الأولى : علمه أن النجاة من الشقاء والضلال : إنما هي في البصيرة . فمن لا بصيرة له : فهو من أهل الضلال في الدنيا . والشقاء في الآخرة .
والبصيرة نور يجعله الله في عين القلب ، يفرق به العبد بين الحق والباطل ، ونسبته إلى القلب : كنسبة ضوء العين إلى العين .
وهذه البصيرة وهبية وكسبية . فمن أدار النظر في أعلام الحق وأدلته ، وتجرد لله من هواه : استنارت بصيرته . ورزق فرقانا يفرق به بين الحق والباطل .
الثاني : أن يعلم أن الاستقامة إنما تكون بعد الثقة ، أي لا يتصور حصول الاستقامة في القول والعمل والحال ، إلا بعد الثقة بصحة ما معه من العلم . وأنه مقتبس من مشكاة النبوة . ومن لم يكن كذلك فلا ثقة له ولا استقامة .
الثالث : أن يعلم أن البينة وراء الحجة . والبينة مراده بها : استبانة الحق وظهوره . وهذا إنما يكون بعد الحجة إذا قامت استبان الحق وظهر واتضح .
وفيه معنى آخر . وهو : أن العبد إذا قبل حجة الله بمحض الإيمان والتسليم والانقياد : كان هذا القبول هو سبب تبينها وظهورها ، وانكشافها لقلبه . فلا يصبر على بينة ربه إلا بعد قبول حجته .
وفيه معنى آخر أيضا : أنه لا يتبين له عيب عمله من صحته إلا بعد العلم الذي هو حجة الله على العبد . فإذا عرف الحجة اتضح له بها ما كان مشكلا عليه من علومه ، وما كان معيبا من أعماله .
وفيه معنى آخر أيضا : وهو أن يكون " وراء " بمعنى أمام . والمعنى : أن الحجة إنما تحصل للعبد بعد تبينها . فإذا لم تتبين له لم تكن له حجة . يعني فلا يقنع من الحجة بمجرد حصولها بلا تبين . فإن التبين أمام الحجة . والله أعلم .