قال الدرجة الثالثة : أن تتضع للحق . فتنزل عن رأيك وعوائدك في الخدمة [ ص: 322 ] ورؤية حقك في الصحبة . وعن رسمك في المشاهدة .
بقول . وتعبده بما أمرك به ، على مقتضى أمره . لا على ما تراه من رأيك . ولا يكون الباعث لك داعي العادة . كما هو باعث من لا بصيرة له ، غير أنه اعتاد أمرا فجرى عليه . ولو اعتاد ضده لكان كذلك . التواضع بأن تخدم الحق سبحانه
وحاصله : أنه لا يكون باعثه على العبودية مجرد رأي ، وموافقة هوى ومحبة وعادة . بل الباعث مجرد الأمر . والرأي والمحبة والهوى والعوائد : منفذة تابعة . لا أنها مطاعة باعثة . وهذه نكتة لا يتنبه لها إلا أهل البصائر .
وأما نزوله عن رؤية حقه في الصحبة .
فمعناه : أن لا يرى لنفسه حقا على الله لأجل عمله . فإن صحبته مع الله بالعبودية والفقر المحض ، والذل والانكسار . فمتى رأى لنفسه عليه حقا فسدت الصحبة . وصارت معلولة وخيف منها المقت . ولا ينافي هذا ما أحقه سبحانه على نفسه من إثابة عابديه وإكرامهم . فإن ذلك حق أحقه على نفسه بمحض كرمه وبره وجوده وإحسانه . لا باستحقاق العبيد ، وأنهم أوجبوه عليه بأعمالهم .
فعليك بالفرقان في هذا الموضع الذي هو مفترق الطرق . والناس فيه ثلاث فرق .
فرقة رأت أن العبد أقل وأعجز من أن يوجب على ربه حقا . فقالت : لا يجب على الله شيء ألبتة . وأنكرت وجوب ما أوجب على نفسه .
وفرقة رأت أنه سبحانه أوجب على نفسه أمورا لعبده . فظنت أن العبد أوجبها عليه بأعماله ، وأن أعماله كانت سببا لهذا الإيجاب . والفرقتان غالطتان .
والفرقة الثالثة : أهل الهدى والصواب ، قالت : . ولا يدخل أحدا عمله الجنة أبدا ، ولا ينجيه من النار . والله تعالى - بفضله وكرمه ، ومحض جوده وإحسانه - أكد إحسانه وجوده وبره بأن أوجب لعبده عليه سبحانه حقا بمقتضى الوعد . فإن وعد الكريم إيجاب ، ولو بعسى ، ولعل . لا يستوجب العبد على الله بسعيه نجاة ولا فلاحا
ولهذا قال رضي الله عنهما : عسى من الله واجب . ابن عباس
ووعد اللئيم خلف . ولو اقترن به العهد والحلف .
والمقصود : أن عدم رؤية العبد لنفسه حقا على الله لا ينافي ما أوجبه الله على نفسه . وجعله حقا لعبده . قال النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه : لمعاذ بن جبل معاذ ، أتدري ما [ ص: 323 ] حق الله على العباد ؟ قال : الله ورسوله أعلم . قال : حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا . يا معاذ ، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟ قلت : الله ورسوله أعلم . قال : حقهم عليه : أن لا يعذبهم بالنار . يا
فالرب سبحانه ما لأحد عليه حق . ولا يضيع لديه سعي . كما قيل :
ما للعباد عليه حق واجب كلا ولا سعي لديه ضائع إن عذبوا فبعدله ، أو نعموا
فبفضله وهو الكريم الواسع
أي من جملة التواضع للحق : فناؤك عن نفسك . فإن رسمه هي نفسه . والنزول عنها : فناؤه عنها حين شهوده الحضرة . وهذا النزول يصح أن يقال كسبي باعتبار ، وإن كان عند القوم غير كسبي . لأنه يحصل عند التجلي . والتجلي نور . والنور يقهر الظلمة ويبطلها . والرسم عند القوم ظلمة . فهي تنفر من النور بالذات . فصار النزول عن الرسم حين التجلي ذاتيا .
ووجه كونه كسبيا : أنه نتيجة المقامات الكسبية . ونتيجة الكسبي كسبي . وثمرته ، وإن حصلت ضرورة بالذات : لم يمتنع أن يطلق عليها كونها كسبية باعتبار السبب . والله أعلم .