فصل
قال : الدرجة الثالثة . وهو إسفار صبح الكشف . ثم الخلاص من كلفة اليقين . ثم الفناء في حق اليقين . حق اليقين
اعلم أن هذه الدرجة لا تنال في هذا العالم إلا للرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين . فإن نبينا صلى الله عليه وسلم رأى بعينه الجنة والنار ، وموسى عليه السلام سمع كلام الله منه إليه بلا واسطة ، وكلمه تكليما . وتجلى للجبل وموسى ينظر ، فجعله دكا هشيما .
نعم يحصل لنا حق اليقين من مرتبة ، وهي ذوق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من حقائق الإيمان ، المتعلقة بالقلوب وأعمالها . فإن القلب إذا باشرها وذاقها صارت في حقه حق يقين .
وأما في أمور الآخرة والمعاد ، ورؤية الله جهرة عيانا ، وسماع كلامه حقيقة بلا واسطة - فحظ المؤمن منه في هذه الدار : الإيمان . وعلم اليقين . وحق اليقين : يتأخر إلى وقت اللقاء .
ولكن لما كان السالك عنده ينتهي إلى الفناء . ويتحقق شهود الحقيقة . ويصل إلى عين الجمع ، قال : حق اليقين : هو إسفار صبح الكشف .
يعني : تحققه وثبوته ، وغلبة نوره على ظلمة ليل الحجاب . فينتقل من طور العلم إلى الاستغراق في الشهود بالفناء عن الرسم بالكلية .
وقوله : ثم الخلاص من كلفة اليقين .
يعني : أن . ويقوم بها ، ويتحمل كلفها ومشاقها . فإذا فني في التوحيد حصل له أمور أخرى رفيعة عالية جدا . يصير فيها محمولا ، بعد أن كان حاملا ، وطائرا بعد أن كان سائرا ، فتزول عنه كلفة حمل تلك الحقوق . بل يبقى له كالنفس ، وكالماء للسمك . وهذا أمر التحاكم فيه إلى الذوق والإحساس . فلا تسرع إلى إنكاره . اليقين له حقوق يجب على صاحبه أن يؤديها
وتأمل حال ذلك الصحابي الذي أخذ تمراته . وقعد يأكلها على حاجة وجوع وفاقة إليها . فلما عاين سوق الشهادة قامت . ألقى قوته من يده ، وقال : إنها لحياة طويلة ، [ ص: 381 ] إن بقيت حتى آكل هذه التمرات . وألقاها من يده ، وقاتل حتى قتل ، وكذلك أحوال الصحابة رضي الله عنهم . كانت مطابقة لما أشار إليه .
لكن بقيت نكتة عظيمة ، وهي موضع السجدة ، وهي أن فناءهم لم يكن في توحيد الربوبية ، وشهود الحقيقة التي يشير إليها أرباب الفناء بل في توحيد الإلهية . ففنوا بحبه تعالى عن حب ما سواه . وبمراده منهم عن مرادهم وحظوظهم . فلم يكونوا عاملين على فناء . ولا الاستغراق في الشهود . بحيث يفنون به عن مراد محبوبهم منهم ، بل قد فنوا بمراده عن مرادهم . فهم أهل بقاء في فناء ، وفرق في جمع . وكثرة في وحدة . وحقيقة كونية في حقيقة دينية .
هم القوم . لا قوم إلا هم ولولاهم ما اهتدينا السبيلا فنسبة أحوال من بعدهم الصحيحة الكاملة إلى أحوالهم : كنسبة ما يرشح من الظرف والقربة إلى ما في داخلها .
وأما الطريق المنحرفة الفاسدة : فسبيل غير سبيلهم ، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء . والله ذو الفضل العظيم .