قال صاحب " المنازل " رحمه الله :
التعظيم : معرفة العظمة ، مع التذلل لها . وهو على ثلاث درجات . الأولى : ، وهو أن لا يعارضا بترخص جاف . ولا يعرضا لتشدد غال . ولا يحملا على علة توهن الانقياد . تعظيم الأمر والنهي
هاهنا ثلاثة أشياء ، تنافي تعظيم الأمر والنهي .
أحدها : الترخص الذي يجفو بصاحبه عن كمال الامتثال .
والثاني : الغلو الذي يتجاوز بصاحبه حدود الأمر والنهي .
فالأول : تفريط . والثاني : إفراط .
وما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان : إما إلى تفريط وإضاعة ، وإما إلى إفراط وغلو . ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه . كالوادي بين جبلين . والهدى بين [ ص: 465 ] ضلالتين . والوسط بين طرفين ذميمين . فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له ، فالغالي فيه : مضيع له . هذا بتقصيره عن الحد . وهذا بتجاوزه الحد .
وقد نهى الله عن الغلو بقوله : ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق .
: نوع يخرجه عن كونه مطيعا . كمن زاد في الصلاة ركعة ، أو صام الدهر مع أيام النهي ، أو رمى الجمرات بالصخرات الكبار التي يرمى بها في المنجنيق ، أو سعى بين والغلو نوعان الصفا والمروة عشرا ، أو نحو ذلك عمدا .
وغلو يخاف منه الانقطاع والاستحسار . كقيام الليل كله . وسرد الصيام الدهر أجمع . بدون صوم أيام النهي . والجور على النفوس في العبادات والأوراد ، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : يعني استعينوا على طاعة الله بالأعمال في هذه الأوقات الثلاثة . فإن المسافر يستعين على قطع مسافة السفر بالسير فيها . إن هذا الدين يسر ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه . فسددوا وقاربوا ويسروا . واستعينوا بالغدوة والروحة . وشيء من الدلجة
وقال صلى الله عليه وسلم رواهما ليصل أحدكم نشاطه . فإذا فتر فليرقد . البخاري
وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : . هلك المتنطعون - قالها ثلاثا - وهم المتعمقون المتشددون
وفي صحيح عنه صلى الله عليه وسلم البخاري . عليكم من الأعمال ما تطيقون ، فوالله لا يمل الله حتى تملوا
[ ص: 466 ] وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : . أو كما قال . إن هذا الدين متين . فأوغل فيه برفق . ولا تبغضن إلى نفسك عبادة الله
وقوله : ولا يحملا على علة توهن الانقياد .
يريد : أن لا يتأول في الأمر والنهي علة تعود عليهما بالإبطال ، كما تأول بعضهم تحريم الخمر بأنه معلل بإيقاع العداوة والبغضاء ، والتعرض للفساد . فإذا أمن من هذا المحذور منه جاز شربه . كما قيل :
أدرها فما التحريم فيها لذاتها ولكن لأسباب تضمنها السكر إذا لم يكن سكر يضل عن الهدى
فسيان ماء في الزجاجة أو خمر
ومن العلل التي توهن الانقياد : أن يعلل الحكم بعلة ضعيفة ، لم تكن هي الباعثة عليه في نفس الأمر . فيضعف انقياد العبد إذا قام عنده أن هذه هي علة الحكم . ولهذا كانت طريقة القوم عدم التعرض لعلل التكاليف خشية هذا المحذور .
وفي بعض الآثار القديمة : يا بني إسرائيل . لا تقولوا : لم أمر ربنا ؟ ولكن قولوا : بم أمر ربنا ؟ .
وأيضا فإنه إذا لم يمتثل الأمر حتى تظهر له علته ، لم يكن منقادا للأمر . وأقل درجاته : أن يضعف انقياده له .
وأيضا فإنه إذا نظر إلى حكم العبادات والتكاليف مثلا . وجعل العلة فيها هي جمعية القلب ، والإقبال به على الله . فقال : أنا أشتغل بالمقصود عن الوسيلة . فاشتغل بجمعيته وخلوته عن أوراد العبارات فعطلها ، وترك الانقياد بحمله الأمر على العلة التي أذهبت انقياده .
[ ص: 467 ] وكل هذا من ترك تعظم الأمر والنهي . وقد دخل من هذا الفساد على كثير من الطوائف ما لا يعلمه إلا الله . فما يدري ما أوهنت العلل الفاسدة من الانقياد إلا الله . فكم عطلت لله من أمر . وأباحت من نهي . وحرمت من مباح ؟ ! وهي التي اتفقت كلمة السلف على ذمها .