فصل
قال : . إن أبقى على صاحبه لباسه ، وإلا أبقى عليه نوره . الدرجة الثانية : وجد تستفيق له الروح بلمع نور أزلي . أو سماع نداء أولي ، أو جذب حقيقي
إنما كان هذا الوجد أعلى من الوجد الأول : لأن محل اليقظة فيه هو الروح ، ومحلها في الأول : السمع والبصر والفكر . والروح هي الحاملة للسمع والبصر والفكر . وهذه الأوصاف من صفاتها .
وأيضا فلعل وجد الروح سبب آخر . وهو علو متعلقه ، فإن متعلق وجد السمع والبصر والفكر : الآيات والبصائر . ومتعلق وجد الروح : تعلقها بالمحبوب لذاته . ولذلك جعل سببه " لمع نور أزلي " يعني شهودها لمع نور الحقيقة الأزلي . وهذا الشهود لا حظ فيه للسمع ولا للبصر ولا للفكر . بل تستنير به الأسماع والأبصار . لأن الروح لما استنارت بهذه اليقظة والإفاقة . ثم استنارت بنورها الأسماع والأبصار . لا سيما وصاحبها في هذه الحال إنما يسمع بالله ويبصر به . وإذا كان سمعه وبصره وبطشه بالله ، فما الظن بحركة روحه وقلبه وأحكامها ؟
وقوله " أو سماع نداء أولي " إن أراد به : تعرف الحق تعالى إلى عباده بواسطة الخطاب على ألسنة رسله - وهذا هو الخطاب الأزلي - فصحيح . وإن أراد به : خطاب الملك له : فليس بخطاب أزلي . وإن أراد ما سمعه في نفسه من الخطاب : فهو خطاب وهمي . وإن ظنه أزليا . فإياك والأوهام والغرور .
ونحن لا ننكر الوجود ، ولا ندفع الشهود . وإنما نتكلم مع القوم في رتبته وإنشائه ، ومن أين بدأ ؟ وإلى أين يعود ؟ فلا ننكر واعظ الله في قلب عبده المؤمن الذي يأمره وينهاه . ولكن ذلك في قلب كل مؤمن جعله الله واعظا له يأمره وينهاه ، ويناديه ويحذره ، ويبشره وينذره . وهو الداعي الذي يدعو فوق الصراط .
والداعي على رأس [ ص: 73 ] الصراط : كتاب الله . كما في المسند والترمذي من حديث النواس بن سمعان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال . ضرب الله مثلا : صراطا مستقيما . وعلى جنبتي الصراط سوران . وفي السورين أبواب مفتحة ، وعلى الأبواب ستور مرخاة ، وداع يدعو على رأس الصراط ، وداع يدعو فوق الصراط . فالصراط المستقيم : الإسلام ، والأبواب المفتحة : محارم الله . فلا يقع أحد في حد من حدود الله حتى يكشف الستر . والداعي على رأس الصراط : كتاب الله . والداعي فوق الصراط : واعظ الله في قلب كل مؤمن
فما ثم خطاب قط إلا من جهة من هاتين : إما خطاب القرآن ، وإما خطاب هذا الواعظ .
ولكن لما كانت الروح قد تتجرد ويقوى تعلقها بالحق تعالى . بل قد تتلاشى بما سواه . وقد يقترن بذلك نوع غيبة من حسه ، ويقوى داعي هذا الواعظ . ويستولي على قلبه وروحه ، بحيث يمتلئ به ، فتؤديه الروح إلى الأذن ، فيخرج عن الأذن إليها . إذ هي مبدؤه . وإليها يعود ، فيظنه خطابا خارجا . وينضاف إلى ذلك نوع من ضعف العلم ومعرفة المراتب . فينشأ الغلط والوهم .
قوله " أو جذب حقيقي " يعني : أن من أسباب هذا الوجد جذبة حقيقية من جذبات الرب تعالى لعبده ، استفاقت لها روحه من منامها . وحييت بها بعد مماتها . واستنارت بها بعد ظلماتها . فالوجد خلعة هذه الجذبة .
قوله : إن أبقى على صاحبه لباسه ، وإلا أبقى عليه نوره
يريد بلباسه مقامه ، يعني إن أبقى عليه تحقق مقامه فيه ، وإلا أبقى عليه أثره . فمقامه يورثه عزا ومهابة وخلافة نبوة ، ومنشور صديقية . وأثره يورثه حلاوة وسكينة ، وأنسا في نفسه وأنسا للقلوب به ، وهوى الأفئدة إليه .