فصل
قال : والذوق : أبقى من الوجد ، وأجلى من البرق .
يريد به : أن
nindex.php?page=treesubj&link=29416_29411منزلة الذوق أثبت وأرسخ من منزلة الوجد وذلك لأن أثر الذوق يبقى في القلب ، ويطول بقاؤه . كما يبقى أثر ذوق الطعام والشراب في القوة الذائقة . ويبقى على البدن والروح . فإن الذوق مباشرة - كما تقدم - والوجد عند الشيخ لهيب يتأجج من شهود عارض مقلق فهو عنده من العوارض ، كالهيمان والقلق . فإنه ينشأ من مكاشفة لا تدوم . فلذلك جعله أبقى من الوجد .
وأما قوله " وأجلى من البرق " فإن البرق أسرع انقضاء ، وكشفه دون كشف الذوق . وهذا صحيح .
ولكن جعله الذوق أبقى من الوجد وأعلى منه : فيه نظر . وقد يقال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الوجد فوق الذوق وأعلى منزلة منه ، فإنه قال
nindex.php?page=hadith&LINKID=980595ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان الحديث ، وقال في الذوق : ذاق طعم الإيمان ، فوجد حلاوة الشيء المذوق : أخص من مجرد ذوقه . ولما كانت الحلاوة أخص من الطعم : قرن بها الوجد الذي هو أخص من مجرد الذوق . فقرن الأخص بالأخص ، والأعم بالأعم .
وليس المراد بوجد حلاوة الإيمان : الوجد الذي هو لهيب القلب . فإن ذلك مصدر وجد بالشيء وجدا ، وإنما هو من الوجود الذي هو الثبوت . فمصدر هذا الفعل : الوجود والوجدان ، فوجد الشيء يجده وجدانا : إذا حصل له وثبت . كما يجد الفاقد الشيء الذي بعد منه .
ومنه قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=39ووجد الله عنده وقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=110ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما وقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=93&ayano=6ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى وقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=44إنا وجدناه صابرا فهذا كله من الوجود والثبوت . وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -
nindex.php?page=hadith&LINKID=980596وجد بهن حلاوة الإيمان .
[ ص: 90 ] فوجدان الشيء : ثبوته واستقراره . ولا ريب أن ذوق طعم الإيمان وجدان له . إذ يمتنع حصول هذا الذوق من غير وجدان . ولكن اصطلاح كثير من القوم على أن الذائق أخص من الواجد . فكأنه شارك الواجد في الحصول ، وامتاز عنه بالذوق . فإنه قد يجد الشيء ولا يذوقه الذوق التام .
وهذا ليس كما قالوه . بل وجود هذه الحقائق للقلب : ذوق لها وزيادة ، وثبوت واستقرار . والله سبحانه وتعالى أعلم .
فَصْلٌ
قَالَ : وَالذَّوْقُ : أَبْقَى مِنَ الْوَجْدِ ، وَأَجْلَى مِنَ الْبَرْقِ .
يُرِيدُ بِهِ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29416_29411مَنْزِلَةَ الذَّوْقِ أَثْبَتُ وَأَرْسَخُ مِنْ مَنْزِلَةِ الْوَجْدِ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَثَرَ الذَّوْقِ يَبْقَى فِي الْقَلْبِ ، وَيَطُولُ بَقَاؤُهُ . كَمَا يَبْقَى أَثَرُ ذَوْقِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي الْقُوَّةِ الذَّائِقَةِ . وَيَبْقَى عَلَى الْبَدَنِ وَالرُّوحِ . فَإِنَّ الذَّوْقَ مُبَاشَرَةٌ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَالْوَجْدُ عِنْدَ الشَّيْخِ لَهِيبٌ يَتَأَجَّجُ مِنْ شُهُودِ عَارِضٍ مُقْلِقٍ فَهُوَ عِنْدَهُ مِنَ الْعَوَارِضِ ، كَالْهَيَمَانِ وَالْقَلَقِ . فَإِنَّهُ يَنْشَأُ مِنْ مُكَاشَفَةٍ لَا تَدُومُ . فَلِذَلِكَ جَعَلَهُ أَبْقَى مِنَ الْوَجْدِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ " وَأَجْلَى مِنَ الْبَرْقِ " فَإِنَّ الْبَرْقَ أَسْرَعُ انْقِضَاءً ، وَكَشْفُهُ دُونَ كَشْفِ الذَّوْقِ . وَهَذَا صَحِيحٌ .
وَلَكِنَّ جَعْلَهُ الذَّوْقَ أَبْقَى مِنَ الْوَجْدِ وَأَعْلَى مِنْهُ : فِيهِ نَظَرٌ . وَقَدْ يُقَالُ : إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ الْوَجْدَ فَوْقَ الذَّوْقِ وَأَعْلَى مَنْزِلَةً مِنْهُ ، فَإِنَّهُ قَالَ
nindex.php?page=hadith&LINKID=980595ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ الْحَدِيثَ ، وَقَالَ فِي الذَّوْقِ : ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ ، فَوَجْدُ حَلَاوَةِ الشَّيْءِ الْمَذُوقِ : أَخَصُّ مِنْ مُجَرَّدِ ذَوْقِهِ . وَلَمَّا كَانَتِ الْحَلَاوَةُ أَخَصَّ مِنَ الطَّعْمِ : قَرَنَ بِهَا الْوَجْدَ الَّذِي هُوَ أَخَصُّ مِنْ مُجَرَّدِ الذَّوْقِ . فَقَرَنَ الْأَخَصَّ بِالْأَخَصِّ ، وَالْأَعَمَّ بِالْأَعَمِّ .
وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِوَجْدِ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ : الْوَجْدَ الَّذِي هُوَ لَهِيبُ الْقَلْبِ . فَإِنَّ ذَلِكَ مَصْدَرُ وَجَدَ بِالشَّيْءِ وَجْدًا ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الْوُجُودِ الَّذِي هُوَ الثُّبُوتُ . فَمَصْدَرُ هَذَا الْفِعْلِ : الْوُجُودُ وَالْوِجْدَانُ ، فَوَجَدَ الشَّيْءَ يَجِدُهُ وِجْدَانًا : إِذَا حَصَلَ لَهُ وَثَبَتَ . كَمَا يَجِدُ الْفَاقِدُ الشَّيْءَ الَّذِي بَعُدَ مِنْهُ .
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=39وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ وَقَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=110ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا وَقَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=93&ayano=6أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى وَقَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=44إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا فَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْوُجُودِ وَالثُّبُوتِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
nindex.php?page=hadith&LINKID=980596وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ .
[ ص: 90 ] فَوِجْدَانُ الشَّيْءِ : ثُبُوتُهُ وَاسْتِقْرَارُهُ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ ذَوْقَ طَعْمِ الْإِيمَانِ وِجْدَانٌ لَهُ . إِذْ يَمْتَنِعُ حُصُولُ هَذَا الذَّوْقِ مِنْ غَيْرِ وِجْدَانٍ . وَلَكِنَّ اصْطِلَاحَ كَثِيرٍ مِنَ الْقَوْمِ عَلَى أَنَّ الذَّائِقَ أَخَصُّ مِنَ الْوَاجِدِ . فَكَأَنَّهُ شَارَكَ الْوَاجِدَ فِي الْحُصُولِ ، وَامْتَازَ عَنْهُ بِالذَّوْقِ . فَإِنَّهُ قَدْ يَجِدُ الشَّيْءَ وَلَا يَذُوقُهُ الذَّوْقَ التَّامَّ .
وَهَذَا لَيْسَ كَمَا قَالُوهُ . بَلْ وُجُودُ هَذِهِ الْحَقَائِقِ لِلْقَلْبِ : ذَوْقٌ لَهَا وَزِيَادَةٌ ، وَثُبُوتٌ وَاسْتِقْرَارٌ . وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .