فصل
قال :
nindex.php?page=treesubj&link=29416_29411الدرجة الثانية : ذوق الإرادة طعم الأنس . فلا يعلق به شاغل . ولا يفسده عارض . ولا تكدره تفرقة .
الإرادة وصف المريد . والفرق بين هذه الدرجة والتي قبلها : أن الأولى وصف حال العابد الذي ذاق بتصديقه طعم وعد الرب عز وجل ، فجد في العبادة . وأعمال البر ، لثقته بالوعد عليها . وصاحب هذه الدرجة : ذاقت إرادته طعم الأنس . فهي حال المريد .
ولهذا علق حال صاحب الدرجة الأولى : بالوعد الجميل . وعلق حال صاحب هذه الدرجة : بالأنس بالله . والأنس به سبحانه أعلى من الأنس بما يرجوه العابد من نعيم الجنة . فإذا ذاق المريد طعم الأنس جد في إرادته ، واجتهد في حفظ أنسه ، وتحصيل الأسباب المقوية له .
فلا يعلق به شاغل : أي لا يتعلق به شيء يشغله عن سلوكه ، وسيره إلى الله ،
[ ص: 95 ] لشدة طلبه الباعث عليه أنسه ، الذي قد ذاق طعمه ، وتلذذ بحلاوته .
nindex.php?page=treesubj&link=29411_29416والأنس بالله : حالة وجدانية . وهي من مقامات الإحسان ، تقوى بثلاثة أشياء : دوام الذكر ، وصدق المحبة ، وإحسان العمل .
وقوة الأنس وضعفه : على حسب قوة القرب . فكلما كان القلب من ربه أقرب ، كان أنسه به أقوى . وكلما كان منه أبعد ، كانت الوحشة بينه وبين ربه أشد .
قوله " ولا يفسده عارض " العارض المفسد : هو الذي يعذل المحب ، ويلومه على النشاط في رضا محبوبه وطاعته ، ويدعوه إلى الالتفات إليه ، والوقوف معه دون مطلبه العالي . فهو كالذي يجيء عرضا يمنع المار في طريقه عن المرور ، ويلفته عن جهة مقصده إلى غيرها .
وهذا العارض عند القوم : هو إرادة السوى . فإن كل ما سوى الله فهو عارض . وإرادة السوى : توقف السالك ، وتنكس الطالب ، وتحجب الواصل . فإياك وإرادة السوىوإن علا . فإنك تحجب عن الله بقدرإرادتك لغيره . قال تعالى إخبارا عن عباده المقربين
nindex.php?page=tafseer&surano=76&ayano=9إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا وقال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=52ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه وقال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=92&ayano=19وما لأحد عنده من نعمة تجزى nindex.php?page=tafseer&surano=92&ayano=20إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى .
قوله " ولا تكدره تفرقة " الكدر : ضد الصفاء . والتفرقة : ضد الجمعية . والجمعية : هي جمع القلب والهمة على الله بالحضور معه بحال الأنس ، خاليا من تفرقة الخواطر . والتفرقة من أعظم مكدرات القلب . وهي تزيل الصفاء الذي أثمره له الإسلام والإيمان والإحسان . فإن القلب يصفو بذلك . فتجيء التفرقة . فتكدر عليه ذلك الصفاء ، وتشعث القلب . فيجد الصادق ألم ذلك الشعث وأذاه . فيجتهد في لمه ، ولا يلم شعث القلوب بشيء غير الإقبال على الله والإعراض عما سواه . فهناك يلم شعثه ، ويزول كدره ، ويصح سفره . ويجد روح الحياة ، ويذوق طعم الحياة الملكية .
فَصْلٌ
قَالَ :
nindex.php?page=treesubj&link=29416_29411الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ : ذَوْقُ الْإِرَادَةِ طَعْمَ الْأُنْسِ . فَلَا يَعْلَقُ بِهِ شَاغِلٌ . وَلَا يُفْسِدُهُ عَارِضٌ . وَلَا تُكَدِّرُهُ تَفْرِقَةٌ .
الْإِرَادَةُ وَصْفُ الْمُرِيدِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا : أَنَّ الْأُولَى وَصْفُ حَالِ الْعَابِدِ الَّذِي ذَاقَ بِتَصْدِيقِهِ طَعْمَ وَعْدِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ ، فَجَدَّ فِي الْعِبَادَةِ . وَأَعْمَالِ الْبِرِّ ، لِثِقَتِهِ بِالْوَعْدِ عَلَيْهَا . وَصَاحِبُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ : ذَاقَتْ إِرَادَتُهُ طَعْمَ الْأُنْسِ . فَهِيَ حَالُ الْمُرِيدِ .
وَلِهَذَا عَلِقَ حَالُ صَاحِبِ الدَّرَجَةِ الْأُولَى : بِالْوَعْدِ الْجَمِيلِ . وَعَلِقَ حَالُ صَاحِبَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ : بِالْأُنْسِ بِاللَّهِ . وَالْأُنْسُ بِهِ سُبْحَانَهُ أَعْلَى مِنَ الْأُنْسِ بِمَا يَرْجُوهُ الْعَابِدُ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ . فَإِذَا ذَاقَ الْمُرِيدُ طَعْمَ الْأُنْسِ جَدَّ فِي إِرَادَتِهِ ، وَاجْتَهَدَ فِي حِفْظِ أُنْسِهِ ، وَتَحْصِيلِ الْأَسْبَابِ الْمُقَوِّيَةِ لَهُ .
فَلَا يَعْلَقُ بِهِ شَاغِلٌ : أَيْ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ يَشْغَلُهُ عَنْ سُلُوكِهِ ، وَسَيْرِهِ إِلَى اللَّهِ ،
[ ص: 95 ] لِشِدَّةِ طَلَبِهِ الْبَاعِثَ عَلَيْهِ أُنْسُهُ ، الَّذِي قَدْ ذَاقَ طَعْمَهُ ، وَتَلَذَّذَ بِحَلَاوَتِهِ .
nindex.php?page=treesubj&link=29411_29416وَالْأُنْسُ بِاللَّهِ : حَالَةٌ وِجْدَانِيَّةٌ . وَهِيَ مِنْ مَقَامَاتِ الْإِحْسَانِ ، تَقْوَى بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : دَوَامُ الذِّكْرِ ، وَصِدْقُ الْمَحَبَّةِ ، وَإِحْسَانُ الْعَمَلِ .
وَقُوَّةُ الْأُنْسِ وَضَعْفُهُ : عَلَى حَسَبِ قُوَّةِ الْقُرْبِ . فَكُلَّمَا كَانَ الْقَلْبُ مِنْ رَبِّهِ أَقْرَبَ ، كَانَ أُنْسُهُ بِهِ أَقْوَى . وَكُلَّمَا كَانَ مِنْهُ أَبْعَدَ ، كَانَتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ أَشَدَّ .
قَوْلُهُ " وَلَا يُفْسِدُهُ عَارِضٌ " الْعَارِضُ الْمُفْسِدُ : هُوَ الَّذِي يَعْذِلُ الْمُحِبَّ ، وَيَلُومُهُ عَلَى النَّشَاطِ فِي رِضَا مَحْبُوبِهِ وَطَاعَتِهِ ، وَيَدْعُوهُ إِلَى الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ ، وَالْوُقُوفِ مَعَهُ دُونَ مَطْلَبِهِ الْعَالِي . فَهُوَ كَالَّذِي يَجِيءُ عَرَضًا يَمْنَعُ الْمَارَّ فِي طَرِيقِهِ عَنِ الْمُرُورِ ، وَيَلْفِتُهُ عَنْ جِهَةِ مَقْصِدِهِ إِلَى غَيْرِهَا .
وَهَذَا الْعَارِضُ عِنْدَ الْقَوْمِ : هُوَ إِرَادَةُ السِّوَى . فَإِنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ فَهُوَ عَارِضٌ . وَإِرَادَةُ السِّوَى : تُوقِفُ السَّالِكَ ، وَتُنَكِّسُ الطَّالِبَ ، وَتَحْجُبُ الْوَاصِلَ . فَإِيَّاكَ وَإِرَادَةَ السِّوَىوَإِنْ عَلَا . فَإِنَّكَ تُحْجَبُ عَنِ اللَّهِ بِقَدْرِإِرَادَتِكَ لِغَيْرِهِ . قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ عِبَادِهِ الْمُقَرَّبِينَ
nindex.php?page=tafseer&surano=76&ayano=9إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا وَقَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=52وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَقَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=92&ayano=19وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى nindex.php?page=tafseer&surano=92&ayano=20إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى .
قَوْلُهُ " وَلَا تُكَدِّرُهُ تَفْرِقَةٌ " الْكَدَرُ : ضِدُّ الصَّفَاءِ . وَالتَّفْرِقَةُ : ضِدُّ الْجَمْعِيَّةِ . وَالْجَمْعِيَّةُ : هِيَ جَمْعُ الْقَلْبِ وَالْهِمَّةِ عَلَى اللَّهِ بِالْحُضُورِ مَعَهُ بِحَالِ الْأُنْسِ ، خَالِيًا مِنْ تَفْرِقَةِ الْخَوَاطِرِ . وَالتَّفْرِقَةُ مِنْ أَعْظَمِ مُكَدِّرَاتِ الْقَلْبِ . وَهِيَ تُزِيلُ الصَّفَاءَ الَّذِي أَثْمَرَهُ لَهُ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ وَالْإِحْسَانُ . فَإِنَّ الْقَلْبَ يَصْفُو بِذَلِكَ . فَتَجِيءُ التَّفْرِقَةُ . فَتُكَدِّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الصَّفَاءَ ، وَتُشَعِّثَ الْقَلْبَ . فَيَجِدُ الصَّادِقُ أَلَمَ ذَلِكَ الشَّعَثِ وَأَذَاهُ . فَيَجْتَهِدُ فِي لَمِّهِ ، وَلَا يُلَمُّ شَعَثُ الْقُلُوبِ بِشَيْءٍ غَيْرِ الْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا سِوَاهُ . فَهُنَاكَ يُلَمُّ شَعَثُهُ ، وَيَزُولُ كَدَرُهُ ، وَيَصِحُّ سَفَرُهُ . وَيَجِدُ رُوحَ الْحَيَاةِ ، وَيَذُوقُ طَعْمَ الْحَيَاةِ الْمَلَكِيَّةِ .