[ ص: 141 ] فصل
قال : : صفاء حال ، يشاهد به شواهد التحقيق . ويذاق به حلاوة المناجاة . وينسى به الكون . الدرجة الثانية
هذه الدرجة إنما كانت أعلى مما قبلها لأنها همة حال . والحال ثمرة العلم ، ولا يصفو حال إلا بصفاء العلم المثمر له . وعلى حسب شوب العلم يكون شوب الحال . وإذا صفا الحال : شاهد العبد - بصفائه - آثار الحقائق . وهي الشواهد فيه ، وفي غيره ، وعليه ، وعلى غيره . ووجد حلاوة المناجاة . وإذا تمكن في هذه الدرجة : نسي الكون وما فيه من المكونات .
وهذه الدرجة تختص بصفاء الحال كما اختصت الأولى بصفاء العلم .
والحال هو تكيف القلب وانصباغه بحكم الواردات على اختلافها ، والحال يدعو صاحبه إلى المقام الذي جاء منه الوارد ، كما تدعوه رائحة البستان الطيبة إلى دخوله والمقام فيه . فإذا كان الوارد من حضرة صحيحة - وهي حضرة الحقيقة الإلهية ، لا الحقيقة الخيالية الذهنية - شاهد السالك بصفائه شواهد التحقيق ، وهي علاماته : والتحقيق هو حكم الحقيقة ، وتأثر القلب والروح بها ، والحقيقة ما تعلق بالحق المبين سبحانه . فالله هو الحق . والحقيقة ما نسب إليه وتعلق به . والتحقيق تأثر القلب بآثار الحقيقة . ولكل حق حقيقة ، ولكل حقيقة تحقيق يقوم بمشاهدة الحقيقة .
قوله " ويذاق به حلاوة المناجاة " المناجاة : مفاعلة من النجوى . وهو الخطاب في سر العبد وباطنه . والشيخ ذكر في هذه الدرجة ثلاثة أمور .
أحدها : مشاهدة شواهد التحقيق . الثاني : ذوق حلاوة المناجاة . فإنه متى صفا له حاله من الشوائب ، خلصت له حلاوته من مرارة الأكدار . فذاق تلك الحلاوة في حال مناجاته . فلو كان الحال مشوبا مكدرا لم يجد حلاوة المناجاة . والحال المستندة إلى وارد تذاق به حلاوة المناجاة : هو من حضرة الأسماء والصفات ، بحسب ما يصادف القلب من ظهورها وكشف معانيها .
فمن ظهر له اسم الودود - مثلا - وكشف له عن معاني هذا الاسم ، ولطفه ، وتعلقه بظاهر العبد وباطنه : كان الحال الحاصل له من حضرة هذا الاسم مناسبا له . [ ص: 142 ] فكان حال اشتغال حب وشوق ، ولذة مناجاة ، لا أحلى منها ولا أطيب ، بحسب استغراقه في شهود معنى هذا الاسم . وحظه من أثره .
فإن الودود - وإن كان بمعنى المودود ، كما قال البخاري في صحيحه : الودود الحبيب - واستغراق العبد في مطالعة صفات الكمال التي تدعو العبد إلى حب الموصوف بها : أثمر له صفاء علمه بها ، وصفاء حاله في تعبده بمقتضاها : ما ذكره الشيخ من هذه الأمور الثلاثة وغيرها .
وكذلك إن كان اسم فاعل بمعنى الواد وهو المحب : أثمرت له مطالعة ذلك حالا تناسبه .
فإنه إذا شاهد بقلبه غنيا كريما جوادا ، عزيزا قادرا ، كل أحد محتاج إليه بالذات . وهو غني بالذات عن كل ما سواه . وهو - مع ذلك - يود عباده ويحبهم ، ويتودد إليهم بإحسانه إليهم وتفضله عليهم - : كان له من هذا الشهود حالة صافية خالصة من الشوائب .
وكذلك سائر الأسماء والصفات . فصفاء الحال بحسب صفاء المعرفة بها وخلوصها من دم التعطيل وفرث التمثيل . فتخرج المعرفة من بين ذلك فطرة خالصة سائغة للعارفين . كما يخرج اللبن من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين .
والأمر الثالث : قوله " وينسى به الكون " أي ينسى الكون بما يغلب على قلبه من اشتغاله بهذه الحال المذكورة . والمراد بالكون : المخلوقات . أي يشتغل بالحق عن الخلق .