قال : : صفاء اتصال . يدرج حظ العبودية في حق الربوبية . ويغرق نهايات الخبر في بدايات العيان ، ويطوي خسة التكاليف في عين الأزل . الدرجة الثالثة
في هذا اللفظ قلق وسوء تعبير . يجبره حسن حال صاحبه وصدقه ، وتعظيمه لله ورسوله . ولكن أبى الله أن يكون الكمال إلا له . ولا ريب أن بين أرباب الأحوال وبين أصحاب التمكن تفاوتا عظيما . وانظر إلى غلبة الحال على الكليم عليه السلام ، لما شاهد آثار التجلي الإلهي على الجبل ، كيف خر صعقا ؟ وصاحب التمكن - صلوات [ ص: 143 ] الله وسلامه عليه - لما أسري به ورأى ما رأى : لم يصعق ولم يخر ، بل ثبت فؤاده وبصره .
ومراد القوم بالاتصال والوصول : اتصال العبد بربه ، ووصوله إليه . لا بمعنى اتصال ذات العبد بذات الرب ، كما تتصل الذاتان إحداهما بالأخرى . ولا بمعنى انضمام إحدى الذاتين إلى الأخرى والتصاقها بها . وإنما مرادهم بالاتصال والوصول : إزالة النفس والخلق من طريق السير إلى الله . ولا تتوهم سوى ذلك . فإنه عين المحال .
فإن السالك لا يزال سائرا إلى الله تعالى حتى يموت . فلا ينقطع سيره إلا بالموت . فليس في هذه الحياة وصول يفرغ معه السر وينتهي . وليس ثم اتصال حسي بين ذات العبد وذات الرب . فالأول : تعطيل وإلحاد . والثاني : حلول واتحاد . وإنما حقيقة الأمر : تنحية النفس والخلق عن الطريق . فإن الوقوف معهما : هو الانقطاع . وتنحيتهما هو الاتصال .
وأما الملاحدة القائلون بوحدة الوجود ، فإنهم قالوا : العبد من أفعال الله ، وأفعاله من صفاته . وصفاته من ذاته . فأنتج لهم هذا التركيب : أن العبد من ذات الرب . تعالى الله وتقدس عما يقولون علوا كبيرا .
وموضع الغلط : أن . ومفعولاته آثار أفعاله . وأفعاله من صفاته القائمة بذاته ، فذاته سبحانه مستلزمة لصفاته وأفعاله . ومفعولاته منفصلة عنه ، تلك مخلوقة محدثة . والرب تعالى هو الخالق بذاته وصفاته وأفعاله . العبد من مفعولات الرب تعالى ، لا من أفعاله القائمة بذاته
فإياك ثم إياك والألفاظ المجملة المشتبهة التي وقع اصطلاح القوم عليها . فإنها أصل البلاء . وهي مورد الصديق والزنديق . فإذا سمع الضعيف المعرفة والعلم بالله تعالى لفظ " اتصال وانفصال ، ومسامرة ، ومكالمة ، وأنه لا وجود في الحقيقة إلا وجود الله ، وأن وجود الكائنات خيال ووهم ، وهو بمنزلة وجود الظل القائم بغيره " فاسمع منه ما يملأ الآذان من حلول واتحاد وشطحات .
والعارفون من القوم أطلقوا هذه الألفاظ ونحوها ، وأرادوا بها معاني صحيحة في أنفسها . فغلط الغالطون في فهم ما أرادوه . ونسبوهم إلى إلحادهم وكفرهم . واتخذوا كلماتهم المتشابهة ترسا له وجنة ، حتى قال قائلهم :
[ ص: 144 ]
ومنك بدا حب بعز تمازجا بنا ووصالا كنت أنت وصلته ظهرت لمن أبقيت بعد فنائه
وكان بلا كون لأنك كنته
قوله : يدرج حظ العبودية في حق الربوبية .
المعنى الصحيح ، الذي يحمل عليه هذا الكلام : أن من تمكن في قلبه شهود الأسماء والصفات ، وصفا له علمه وحاله : اندرج عمله جميعه وأضعافه وأضعاف أضعافه في حق ربه تعالى ورآه في جنب حقه أقل من خردلة بالنسبة إلى جبال الدنيا . فسقط من قلبه اقتضاء حظه من المجازاة عليه . لاحتقاره له ، وقلته عنده ، وصغره في عينه .
قال : حدثنا الإمام أحمد هاشم بن القاسم حدثنا صالح عن عن أبي عمران الجوني أبي الجلد أن الله تعالى أوحى إلى داود : يا داود ، أنذر عبادي الصادقين . فلا يعجبن بأنفسهم ، ولا يتكلن على أعمالهم . فإنه ليس أحد من عبادي أنصبه للحساب ، وأقيم عليه عدلي إلا عذبته ، من غير أن أظلمه . وبشر عبادي الخطائين : أنه لا يتعاظمني ذنب أن أغفره وأتجاوز عنه .
وقال : وحدثنا الإمام أحمد سيار حدثنا جعفر حدثنا قال : تعبد رجل سبعين سنة . وكان يقول في دعائه : رب اجزني بعملي . فمات فأدخل الجنة . فكان فيها سبعين عاما . فلما فرغ وقته ، قيل له : اخرج ، فقد استوفيت عملك ، فقلب أمره : أي شيء كان في الدنيا أوثق في نفسه ؟ فلم يجد شيئا أوثق في نفسه من دعاء الله ، والرغبة إليه . فأقبل يقول في دعائه : رب سمعتك - وأنا في الدنيا - وأنت تقيل العثرات . فأقل اليوم عثرتي . فترك في الجنة . ثابت البناني
وقال : حدثنا أحمد بن حنبل هاشم حدثنا صالح عن عن أبي عمران الجوني أبي الجلد قال : قال موسى : إلهي ، كيف أشكرك ، وأصغر نعمة وضعتها عندي من نعمتك لا يجازيها عملي كله ؟ فأوحى الله تعالى إليه : ياموسى ، الآن شكرتني .
[ ص: 145 ] فهذا المعنى الصحيح من اندراج حظ العبودية في حق الربوبية .
وله محمل آخر صحيح أيضا ، وهو أن ليس يملك العبد منها شيئا . بل هو محض ملك الله . فهو المالك لها ، المنعم على عبده بإعطائه إياها . فالمال ماله . والعبد عبده . والخدمة مستحقة عليه بحق الربوبية . وهي من فضل الله عليه . فالفضل كله لله ، ومن الله ، وبالله . ذات العبد وصفاته وأفعاله وقواه وحركاته : كلها مفعولة للرب ، مملوكة له ،
قوله " ويعرف نهايات الخبر في بدايات العيان " الخبر : متعلق الغيب . والعيان متعلق الشهادة . وهو إدراك عين البصيرة لصحة الخبر ، وثبوت مخبره .
ومراده ب " بدايات العيان " أوائل الكشف الحقيقي الذي يدخل منه إلى مقام الفناء . ومقصوده : أن يرى الشاهد ما أخبر به الصادق بقلبه عيانا . قال الله تعالى ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق وقال تعالى أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى فقد قال : أفمن رأى بعين قلبه أن ما أنزل الله إلى رسوله هو الحق كمن هو أعمى لا يبصر ذلك ؟ وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في مقام الإحسان ولا ريب أن تصديق الخبر واليقين به يقوي القلب ، حتى يصير الغيب بمنزلة المشاهد بالعين . فصاحب هذا المقام : كأنه يرى ربه سبحانه فوق سماواته على عرشه ، مطلعا على عباده ناظرا إليهم ، يسمع كلامهم . ويرى ظواهرهم وبواطنهم . أن تعبد الله كأنك تراه
وكأنه يسمعه وهو يتكلم بالوحي . ويكلم به عبده جبريل ، ويأمره وينهاه بما يريد ، ويدبر أمر المملكة . وأملاكه صاعدة إليه بالأمر ، نازلة من عنده به .
وكأنه يشاهده ، وهو يرضى ويغضب ، ويحب ويبغض ، ويعطي ويمنع ، ويضحك ويفرح ، ويثني على أوليائه بين ملائكته ، ويذم أعداءه .
وكأنه يشاهده ويشاهد يديه الكريمتين ، وقد قبضت إحداهما السماوات السبع ، والأخرى الأرضين السبع . وقد طوى السماوات السبع بيمينه ، كما يطوى السجل على أسطر الكتاب .
وكأنه يشاهده ، وقد جاء لفصل القضاء بين عباده . فأشرقت الأرض بنوره . [ ص: 146 ] ونادى - وهو مستو على عرشه - بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب " وعزتي وجلالي : " لا يجاوزني اليوم ظلم ظالم " .
وكأنه يسمع نداءه لآدم " آدم ، قم فابعث بعث النار " بإذنه الآن ، وكذلك نداؤه لأهل الموقف يا ماذا أجبتم المرسلين وماذا كنتم تعبدون ؟
وبالجملة : فيشاهد بقلبه ربا عرفت به الرسل ، كما عرفت به الكتب ، ودينا دعت إليه الرسل . وحقائق أخبرت بها الرسل . فقام شاهد ذلك بقلبه كما قام شاهد ما أخبر به أهل التواتر - وإن لم يره - من البلاد والوقائع . فهذا إيمانه يجري مجرى العيان ، وإيمان غيره فمحض تقليد العميان .
قوله " ويطوي خسة التكاليف " ليت الشيخ عبر عن هذه اللفظة بغيرها . فوالله إنها لأقبح من شوكة في العين ، وشجى في الحلق . وحاشا التكاليف أن توصف بخسة ، أو تلحقها خسة . وإنما هي قرة عين ، وسرور قلب ، وحياة روح . صدر التكليف بها عن حكيم حميد . فهي أشرف ما وصل إلى العبد من ربه ، وثوابه عليها أشرف ما أعطاه الله للعبد .
[ ص: 147 ] نعم لو قال : يطوي ثقل التكاليف ويخفف أعباءها ونحو ذلك . فلعله كان أولى ، ولولا مقامه في الإيمان والمعرفة والقيام بالأوامر لكنا نسيء به الظن .
والذي يحتمل أن يصرف كلامه إليه وجهان :
أحدهما : أن الصفاء - المذكور في هذه الدرجة - لما انطوت في حكمه الوسائط والأسباب . واندرج فيه حظ العبودية في حق الربوبية : انطوت فيه رؤية كون العبادة تكليفا . فإن رؤيتها تكليفا خسة من الرائي . لأنه رآها بعين أنفته وقيامه بها . ولم يرها بعين الحقيقة . فإنه لم يصل إلى مقام " فبي يسمع ، وبي يبصر ، وبي يبطش ، وبي يمشي " ولو وصل إلى ذلك لرآها بعين الحقيقة ، ولا خسة فيها هناك ألبتة . فإن نظره قد تعدى من قيامه بها إلى قيامها بالقيوم الذي قام به كل شيء . فكان لها وجهان .
أحدهما : هي به خسيسة . وهو وجه قيامها بالعبد ، وصدورها منه .
والثاني : هي به شريفة . وهو وجه كونها بالرب تعالى وأوليته ، أمرا وتكوينا وإعانة . فالصفاء يطويها من ذلك الوجه خاصة .
والمعنى الثاني ، الذي يحتمله كلامه : أن يكون مراده : أن الصفاء يشهده عين الأزل ، وسبق الرب تعالى ، وأوليته لكل شيء . فتنطوي في هذا المشهد أعماله التي عملها . ويراها خسيسة جدا بالنسبة إلى عين الأزل . فكأنه قال : تنطوي أعماله ، وتصير - بالنسبة إلى هذه العين - خسيسة جدا لا تذكر . بل تكون في عين الأزل هباء منثورا ، لا حاصل لها .
فإن الوقت الذي هو ظرف التكليف يتلاشى جدا بالنسبة إلى الأزل . وهو وقت خسيس حقير ، حتى كأنه لا حاصل له . ولا نسبة له إلى الأزل والأبد في مقدار الأعمال الواقعة فيه . وهي يسيرة بالنسبة إلى مجموع ذلك الوقت الذي هو يسير جدا . بالنسبة إلى مجموع الزمان الذي هو يسير جدا . بالنسبة إلى عين الأزل .
فهذا أقرب ما يحمل عليه كلامه مع قلقه . وقد اعتراه فيه سوء تعبير . وكأنه أطلق عليها الخسة لقلتها وخفتها . بالنسبة إلى عظمة المكلف بها سبحانه . وما يستحقه . والله سبحانه أعلم .