فصل  
قوله : والنفس الثالث :  نفس مطهر بماء القدس ، قائم بإشارات الأزل ، وهو النفس الذي يسمى بصدق النور      .  
القدس : الطهارة ، والتقديس : التطهير والتنزيه ، ومراده بالقدس هاهنا : الشهود الذي يفنى الحادث الذي لم يكن ، ويبقى القديم الذي لم يزل ، فكأن صفات الحدوث عندهم : مما يتطهر منها بالتجلي المذكور ، فالتجلي يطهر العبد منها ، فإنه ما دام في الحجاب فهو باق مع إنيته وصفاته ، فإذا أشرق عليه نور التجلي طهره من صفاته وشهودها وتوسيطها بينه وبين مشهوده الحق .  
وحاصل كلامه : أن هذا النفس صادر عن مشاهدة الأزل الماحي للحوادث المفني لها ، فهذا النفس مطهر بالطهر المقدس عن كل غير ، وعن ملاحظة كل مقام ، بل هو مستغرق بنور الحق ، وآثار الحق تنطق عليه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :  إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه  ،  وقال   ابن مسعود     : ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر     . وهذا نطق غير النطق النفساني الطبيعي ، ولهذا سمي هذا النفس      [ ص: 183 ] بصدق النور لصدق شدة تعلقه بالنور ، وملازمته له .  
قوله : " قائم بإشارات الأزل " أي : هذا النفس منزه مطهر عن إشارات الحدوث ، فقد ترحل عنها وفارقها إلى إشارات الأزل ، ويعني بإشارات الأزل أنه قد فني في عيانه الذي شخص إليه من لم يكن وبقي من لم يزل ، فصارت أنفاسه من جملة إشارات الأزل .  
ولم يرد الشيخ : أن أنفاسه تنقلب أزلية ، فمن هو دون الشيخ لا يتوهم هذا بل أنفاس الخلق متعلقة بمن لم يكن ، وهذا نفسه متعلق بمن لم يزل .  
وبعد ، فللملحد هاهنا مجال ، لكنه في الحقيقة وهم باطل وخيال .  
وفي قوله : " يسمى بصدق النور " لطيفة ، وهي أن السالك يلوح له في سلوكه النور مرارا ، ثم يختفي عنه كالبرق يلمع ثم يختفي ، فإذا قوي ذلك النور ودام ظهوره ، صار نورا صادقا .  
قوله : فالنفس الأول : للعيون سراج . والثاني : للقاصد معراج . والثالث : للمحقق تاج .  
أي : النفس الأول : سراج في ظلمة السلوك ، لتعلقه بالعلم ، كما تقدم ، والعلم سراج يهتدى به في طرقات القصد ، ويوضح مسالكها ، ويبين مراتبها ، فهو سراج للعيون .  
والنفس الثاني : للقاصد معراج ، فإنه أعلى من الأول ؛ لأنه من نور المعرفة الرافعة للحجاب .  
والنفس الثالث للمحقق تاج ؛ لأنه نفس مطهر من أدناس الأكوان ، ومتصل بالكائن قبل كل شيء ، والمكون لكل شيء ، والكائن بعد كل شيء ، فهذا تاج لقلبه بمنزلة التاج على رأس الملك .  
والنفس الأول يؤمن السالك من عثرته ، والثاني يوصله إلى طلبته ، والثالث : يدله على علو مرتبته ، والله سبحانه وتعالى أعلم .  
 [ ص: 184 ] 
				
						
						
