فالغربة ثلاثة أنواع :
nindex.php?page=treesubj&link=30206_29411غربة أهل الله وأهل سنة رسوله بين هذا الخلق ، وهي الغربة التي مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلها ، وأخبر عن الدين الذي جاء به : أنه بدأ غريبا وأنه سيعود غريبا كما بدأ وأن أهله يصيرون غرباء .
وهذه الغربة قد تكون في مكان دون مكان ، ووقت دون وقت ، وبين قوم دون قوم ، ولكن أهل هذه الغربة هم أهل الله حقا ، فإنهم لم يأووا إلى غير الله ، ولم ينتسبوا إلى غير رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولم يدعوا إلى غير ما جاء به ، وهم الذين فارقوا الناس أحوج ما كانوا إليهم ، فإذا انطلق الناس يوم القيامة مع آلهتهم بقوا في مكانهم ، فيقال لهم : ألا تنطلقون حيث انطلق الناس ؟ فيقولون : فارقنا الناس ونحن أحوج إليهم منا
[ ص: 187 ] اليوم ، وإنا ننتظر ربنا الذي كنا نعبده .
فهذه الغربة لا وحشة على صاحبها ، بل وآنس ما يكون إذا استوحش الناس ، وأشد ما تكون وحشته إذا استأنسوا ، فوليه الله ورسوله والذين آمنوا ، وإن عاداه أكثر الناس وجفوه .
وفي حديث
القاسم ، عن
أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : عن الله تعالى
nindex.php?page=hadith&LINKID=980639إن أغبط أوليائي عندي : لمؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من صلاته ، أحسن عبادة ربه ، وكان رزقه كفافا ، وكان مع ذلك غامضا في الناس ، لا يشار إليه بالأصابع ، وصبر على ذلك حتى لقي الله ، ثم حلت منيته ، وقل تراثه ، وقلت بواكيه .
ومن هؤلاء الغرباء : من ذكرهم
أنس في حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980640رب أشعث أغبر ، ذي طمرين لا يؤبه له ، لو أقسم على الله لأبره .
وفي حديث
nindex.php?page=showalam&ids=11811أبي إدريس الخولاني ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=32معاذ بن جبل ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980641ألا أخبركم عن ملوك أهل الجنة ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : كل ضعيف أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره وقال
الحسن : المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها ، ولا ينافس في عزلها ، للناس حال وله حال ، الناس منه في راحة وهو من نفسه في تعب .
nindex.php?page=treesubj&link=29411_30206_28328ومن صفات هؤلاء الغرباء الذين غبطهم النبي صلى الله عليه وسلم : التمسك بالسنة ، إذا
[ ص: 188 ] رغب عنها الناس ، وترك ما أحدثوه ، وإن كان هو المعروف عندهم وتجريد التوحيد ، وإن أنكر ذلك أكثر الناس ، وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله ، لا شيخ ولا طريقة ولا مذهب ولا طائفة ، بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية له وحده ، وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده ، وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقا ، وأكثر الناس بل كلهم لائم لهم .
فلغربتهم بين هذا الخلق : يعدونهم أهل شذوذ وبدعة ، ومفارقة للسواد الأعظم .
ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980642هم النزاع من القبائل أن الله سبحانه بعث رسوله وأهل الأرض على أديان مختلفة ، فهم بين عباد أوثان ونيران ، وعباد صور وصلبان ، ويهود وصابئة وفلاسفة ، وكان الإسلام في أول ظهوره غريبا ، وكان من أسلم منهم واستجاب لله ولرسوله غريبا في حيه وقبيلته وأهله وعشيرته .
فكان المستجيبون لدعوة الإسلام نزاعا من القبائل ، بل آحادا منهم تغربوا عن قبائلهم وعشائرهم ، ودخلوا في الإسلام ، فكانوا هم الغرباء حقا ، حتى ظهر الإسلام وانتشرت دعوته ودخل الناس فيه أفواجا ، فزالت تلك الغربة عنهم ، ثم أخذ في الاغتراب والترحل ، حتى عاد غريبا كما بدأ ، بل الإسلام الحق الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه هو اليوم أشد غربة منه في أول ظهوره ، وإن كانت أعلامه ورسومه الظاهرة مشهورة معروفة ، فالإسلام الحقيقي غريب جدا ، وأهله غرباء أشد الغربة بين الناس .
وكيف لا تكون فرقة واحدة قليلة جدا غريبة بين اثنتين وسبعين فرقة ، ذات أتباع ورئاسات ومناصب وولايات ، ولا يقوم لها سوق إلا بمخالفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ فإن نفس ما جاء به يضاد أهواءهم ولذاتهم ، وما هم عليه من الشبهات والبدع التي هي منتهى فضيلتهم وعملهم ، والشهوات التي هي غايات مقاصدهم وإراداتهم ؟
فكيف لا يكون المؤمن السائر إلى الله على طريق المتابعة غريبا بين هؤلاء الذين قد اتبعوا أهواءهم ، وأطاعوا شحهم ، وأعجب كل منهم برأيه ؟ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم
nindex.php?page=hadith&LINKID=980643مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ، حتى إذا رأيتم شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، ورأيت أمرا لا يد لك به ، فعليك بخاصة نفسك ، وإياك وعوامهم ، فإن وراءكم أياما صبر الصابر فيهن كالقابض على الجمر .
ولهذا جعل للمسلم الصادق في هذا الوقت إذا تمسك بدينه : أجر
[ ص: 189 ] خمسين من الصحابة ، ففي سنن
أبي داود nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=1500أبي ثعلبة الخشني قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980644سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية : nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=105ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم فقال : بل ائتمروا بالمعروف ، وتناهوا عن المنكر ، حتى إذا رأيت شحا مطاعا ، وهوى متبعا ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك بخاصة نفسك ودع عنك العوام ، فإن من ورائكم أيام الصبر ؛ الصبر فيهن مثل قبض على الجمر ، للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله ، قلت : يا رسول الله أجر خمسين منهم ؟ قال : أجر خمسين منكم . وهذا الأجر العظيم إنما هو لغربته بين الناس ، والتمسك بالسنة بين ظلمات أهوائهم وآرائهم .
فإذا أراد المؤمن الذي قد رزقه الله بصيرة في دينه ، وفقها في سنة رسوله ، وفهما في كتابه ، وأراه ما الناس فيه من الأهواء والبدع والضلالات وتنكبهم عن الصراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فإذا أراد أن يسلك هذا الصراط فليوطن نفسه على قدح الجهال وأهل البدع فيه ، وطعنهم عليه ، وإزرائهم به وتنفير الناس عنه وتحذيرهم منه ، كما كان سلفهم من الكفار يفعلون مع متبوعه وإمامه صلى الله عليه وسلم ، فأما إن دعاهم إلى ذلك ، وقدح فيما هم عليه : فهنالك تقوم قيامتهم ويبغون له الغوائل وينصبون له الحبائل ويجلبون عليه بخيل كبيرهم ورجله .
فهو غريب في دينه لفساد أديانهم ، غريب في تمسكه بالسنة لتمسكهم بالبدع ، غريب في اعتقاده لفساد عقائدهم ، غريب في صلاته لسوء صلاتهم ، غريب في طريقه لضلال وفساد طرقهم ، غريب في نسبته لمخالفة نسبهم ، غريب في معاشرته لهم ؛ لأنه يعاشرهم على ما لا تهوى أنفسهم .
وبالجملة : فهو غريب في أمور دنياه وآخرته لا يجد من العامة مساعدا ولا معينا فهو عالم بين جهال ، صاحب سنة بين أهل بدع ، داع إلى الله ورسوله بين دعاة إلى الأهواء والبدع ، آمر بالمعروف ناه عن المنكر بين قوم المعروف لديهم منكر والمنكر معروف .
فَالْغُرْبَةُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ :
nindex.php?page=treesubj&link=30206_29411غُرْبَةُ أَهْلِ اللَّهِ وَأَهْلِ سُنَّةِ رَسُولِهِ بَيْنَ هَذَا الْخَلْقِ ، وَهِيَ الْغُرْبَةُ الَّتِي مَدَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَهَا ، وَأَخْبَرَ عَنِ الدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ : أَنَّهُ بَدَأَ غَرِيبًا وَأَنَّهُ سَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ وَأَنَّ أَهْلَهُ يَصِيرُونَ غُرَبَاءَ .
وَهَذِهِ الْغُرْبَةُ قَدْ تَكُونُ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ ، وَوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ ، وَبَيْنَ قَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ ، وَلَكِنَّ أَهْلَ هَذِهِ الْغُرْبَةِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ حَقًّا ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَأْوُوا إِلَى غَيْرِ اللَّهِ ، وَلَمْ يَنْتَسِبُوا إِلَى غَيْرِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَمْ يَدْعُوا إِلَى غَيْرِ مَا جَاءَ بِهِ ، وَهُمُ الَّذِينَ فَارَقُوا النَّاسَ أَحْوَجَ مَا كَانُوا إِلَيْهِمْ ، فَإِذَا انْطَلَقَ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ آلِهَتِهِمْ بَقُوا فِي مَكَانِهِمْ ، فَيُقَالُ لَهُمْ : أَلَا تَنْطَلِقُونَ حَيْثُ انْطَلَقَ النَّاسُ ؟ فَيَقُولُونَ : فَارَقْنَا النَّاسَ وَنَحْنُ أَحْوَجُ إِلَيْهِمْ مِنَّا
[ ص: 187 ] الْيَوْمَ ، وَإِنَّا نَنْتَظِرُ رَبَّنَا الَّذِي كُنَّا نَعْبُدُهُ .
فَهَذِهِ الْغُرْبَةُ لَا وَحْشَةَ عَلَى صَاحِبِهَا ، بَلْ وَآنَسُ مَا يَكُونُ إِذَا اسْتَوْحَشَ النَّاسُ ، وَأَشَدُّ مَا تَكُونُ وَحْشَتُهُ إِذَا اسْتَأْنَسُوا ، فَوَلِيُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ، وَإِنْ عَادَاهُ أَكْثَرُ النَّاسِ وَجَفَوْهُ .
وَفِي حَدِيثِ
الْقَاسِمِ ، عَنْ
أَبِي أُمَامَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : عَنِ اللَّهِ تَعَالَى
nindex.php?page=hadith&LINKID=980639إِنَّ أَغْبَطَ أَوْلِيَائِي عِنْدِي : لَمُؤْمِنٌ خَفِيفُ الْحَاذِّ ذُو حَظٍّ مِنْ صَلَاتِهِ ، أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ ، وَكَانَ رِزْقُهُ كَفَافًا ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ غَامِضًا فِي النَّاسِ ، لَا يُشَارُ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ ، وَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ ، ثُمَّ حَلَّتْ مَنِيَّتُهُ ، وَقَلَّ تُرَاثُهُ ، وَقَلَّتْ بَوَاكِيهِ .
وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْغُرَبَاءِ : مَنْ ذَكَرَهُمْ
أَنَسٌ فِي حَدِيثِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980640رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ، ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ .
وَفِي حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=11811أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ ، عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=32مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980641أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنْ مُلُوكِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ؟ قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ : كُلُّ ضَعِيفٍ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ وَقَالَ
الْحَسَنُ : الْمُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا كَالْغَرِيبِ لَا يَجْزَعُ مِنْ ذُلِّهَا ، وَلَا يُنَافِسُ فِي عَزْلِهَا ، لِلنَّاسِ حَالٌ وَلَهُ حَالٌ ، النَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ وَهُوَ مِنْ نَفْسِهِ فِي تَعَبٍ .
nindex.php?page=treesubj&link=29411_30206_28328وَمِنْ صِفَاتِ هَؤُلَاءِ الْغُرَبَاءِ الَّذِينَ غَبَطَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : التَّمَسُّكُ بِالسُّنَّةِ ، إِذَا
[ ص: 188 ] رَغِبَ عَنْهَا النَّاسُ ، وَتَرْكُ مَا أَحْدَثُوهُ ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَهُمْ وَتَجْرِيدُ التَّوْحِيدِ ، وَإِنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ أَكْثَرُ النَّاسِ ، وَتَرْكُ الِانْتِسَابِ إِلَى أَحَدٍ غَيْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، لَا شَيْخَ وَلَا طَرِيقَةَ وَلَا مَذْهَبَ وَلَا طَائِفَةَ ، بَلْ هَؤُلَاءِ الْغُرَبَاءُ مُنْتَسِبُونَ إِلَى اللَّهِ بِالْعُبُودِيَّةِ لَهُ وَحْدَهُ ، وَإِلَى رَسُولِهِ بِالِاتِّبَاعِ لِمَا جَاءَ بِهِ وَحْدَهُ ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْقَابِضُونَ عَلَى الْجَمْرِ حَقًّا ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ بَلْ كُلُّهُمْ لَائِمٌ لَهُمْ .
فَلِغُرْبَتِهِمْ بَيْنَ هَذَا الْخَلْقِ : يَعُدُّونَهُمْ أَهْلَ شُذُوذٍ وَبِدْعَةٍ ، وَمُفَارَقَةٍ لِلسَّوَادِ الْأَعْظَمِ .
وَمَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980642هُمُ النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ رَسُولَهُ وَأَهْلُ الْأَرْضِ عَلَى أَدْيَانٍ مُخْتَلِفَةٍ ، فَهُمْ بَيْنَ عُبَّادِ أَوْثَانٍ وَنِيرَانٍ ، وَعُبَّادِ صُوَرٍ وَصُلْبَانٍ ، وَيَهُودٍ وَصَابِئَةٍ وَفَلَاسِفَةٍ ، وَكَانَ الْإِسْلَامُ فِي أَوَّلِ ظُهُورِهِ غَرِيبًا ، وَكَانَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ وَاسْتَجَابَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ غَرِيبًا فِي حَيِّهِ وَقَبِيلَتِهِ وَأَهْلِهِ وَعَشِيرَتِهِ .
فَكَانَ الْمُسْتَجِيبُونَ لِدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ نُزَّاعًا مِنَ الْقَبَائِلِ ، بَلْ آحَادًا مِنْهُمْ تَغَرَّبُوا عَنْ قَبَائِلِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ ، وَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ ، فَكَانُوا هُمُ الْغُرَبَاءُ حَقًّا ، حَتَّى ظَهَرَ الْإِسْلَامُ وَانْتَشَرَتْ دَعْوَتُهُ وَدَخَلَ النَّاسُ فِيهِ أَفْوَاجًا ، فَزَالَتْ تِلْكَ الْغُرْبَةُ عَنْهُمْ ، ثُمَّ أَخَذَ فِي الِاغْتِرَابِ وَالتَّرَحُّلِ ، حَتَّى عَادَ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ ، بَلِ الْإِسْلَامُ الْحَقُّ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ هُوَ الْيَوْمَ أَشَدُّ غُرْبَةً مِنْهُ فِي أَوَّلِ ظُهُورِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ أَعْلَامُهُ وَرُسُومُهُ الظَّاهِرَةُ مَشْهُورَةٌ مَعْرُوفَةٌ ، فَالْإِسْلَامُ الْحَقِيقِيُّ غَرِيبٌ جِدًّا ، وَأَهْلُهُ غُرَبَاءُ أَشَدُّ الْغُرْبَةِ بَيْنَ النَّاسِ .
وَكَيْفَ لَا تَكُونُ فِرْقَةٌ وَاحِدَةٌ قَلِيلَةٌ جِدًّا غَرِيبَةً بَيْنَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، ذَاتَ أَتْبَاعٍ وَرِئَاسَاتٍ وَمَنَاصِبَ وَوِلَايَاتٍ ، وَلَا يَقُومُ لَهَا سُوقٌ إِلَّا بِمُخَالَفَةِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَإِنَّ نَفْسَ مَا جَاءَ بِهِ يُضَادُّ أَهْوَاءَهُمْ وَلَذَّاتِهِمْ ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشُّبْهَاتِ وَالْبِدَعِ الَّتِي هِيَ مُنْتَهَى فَضِيلَتِهِمْ وَعَمَلِهِمْ ، وَالشَّهَوَاتِ الَّتِي هِيَ غَايَاتُ مَقَاصِدِهِمْ وَإِرَادَاتِهِمْ ؟
فَكَيْفَ لَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ السَّائِرُ إِلَى اللَّهِ عَلَى طَرِيقِ الْمُتَابَعَةِ غَرِيبًا بَيْنَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَدِ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ، وَأَطَاعُوا شُحَّهُمْ ، وَأُعْجِبَ كُلٌّ مِنْهُمْ بِرَأْيِهِ ؟ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
nindex.php?page=hadith&LINKID=980643مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتُمْ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً ، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ ، وَرَأَيْتَ أَمْرًا لَا يَدَ لَكَ بِهِ ، فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ ، وَإِيَّاكَ وَعَوَامَّهُمْ ، فَإِنَّ وَرَاءَكُمْ أَيَّامًا صَبْرُ الصَّابِرِ فِيهِنَّ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ .
وَلِهَذَا جُعِلَ لِلْمُسْلِمِ الصَّادِقِ فِي هَذَا الْوَقْتِ إِذَا تَمَسَّكَ بِدِينِهِ : أَجْرُ
[ ص: 189 ] خَمْسِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ ، فَفِي سُنَنِ
أَبِي دَاوُدَ nindex.php?page=showalam&ids=13948وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=1500أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980644سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ : nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=105يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ فَقَالَ : بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ ، وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحَّا مُطَاعًا ، وَهَوًى مُتَّبَعًا ، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً ، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ ، فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكِ وَدَعْ عَنْكَ الْعَوَامَّ ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ ؛ الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ ؟ قَالَ : أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ . وَهَذَا الْأَجْرُ الْعَظِيمُ إِنَّمَا هُوَ لِغُرْبَتِهِ بَيْنَ النَّاسِ ، وَالتَّمَسُّكِ بِالسُّنَّةِ بَيْنَ ظُلُمَاتِ أَهْوَائِهِمْ وَآرَائِهِمْ .
فَإِذَا أَرَادَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي قَدْ رَزَقَهُ اللَّهُ بَصِيرَةً فِي دِينِهِ ، وَفِقْهًا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ ، وَفَهْمًا فِي كِتَابِهِ ، وَأَرَاهُ مَا النَّاسُ فِيهِ مِنَ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ وَتَنَكُّبِهِمْ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْلُكَ هَذَا الصِّرَاطَ فَلْيُوَطِّنْ نَفْسَهُ عَلَى قَدْحِ الْجُهَّالِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ فِيهِ ، وَطَعْنِهِمْ عَلَيْهِ ، وَإِزْرَائِهِمْ بِهِ وَتَنْفِيرِ النَّاسِ عَنْهُ وَتَحْذِيرِهِمْ مِنْهُ ، كَمَا كَانَ سَلَفُهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ يَفْعَلُونَ مَعَ مَتْبُوعِهِ وَإِمَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَمَّا إِنْ دَعَاهُمْ إِلَى ذَلِكَ ، وَقَدَحَ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ : فَهُنَالِكَ تَقُومُ قِيَامَتُهُمْ وَيَبْغُونَ لَهُ الْغَوَائِلَ وَيَنْصِبُونَ لَهُ الْحَبَائِلَ وَيَجْلِبُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلِ كَبِيرِهِمْ وَرِجْلِهِ .
فَهُوَ غَرِيبٌ فِي دِينِهِ لِفَسَادِ أَدْيَانِهِمْ ، غَرِيبٌ فِي تَمَسُّكِهِ بِالسُّنَّةِ لِتَمَسُّكِهِمْ بِالْبِدَعِ ، غَرِيبٌ فِي اعْتِقَادِهِ لِفَسَادِ عَقَائِدِهِمْ ، غَرِيبٌ فِي صِلَاتِهِ لِسُوءِ صِلَاتِهِمْ ، غَرِيبٌ فِي طَرِيقِهِ لِضَلَالِ وَفَسَادِ طُرُقِهِمْ ، غَرِيبٌ فِي نِسْبَتِهِ لِمُخَالَفَةِ نَسَبِهِمْ ، غَرِيبٌ فِي مُعَاشَرَتِهِ لَهُمْ ؛ لِأَنَّهُ يُعَاشِرُهُمْ عَلَى مَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ .
وَبِالْجُمْلَةِ : فَهُوَ غَرِيبٌ فِي أُمُورِ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ لَا يَجِدُ مِنَ الْعَامَّةِ مُسَاعِدًا وَلَا مُعِينًا فَهُوَ عَالِمٌ بَيْنَ جُهَّالٍ ، صَاحِبُ سُنَّةٍ بَيْنَ أَهْلِ بِدَعٍ ، دَاعٍ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَيْنَ دُعَاةٍ إِلَى الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ ، آمِرٌ بِالْمَعْرُوفِ نَاهٍ عَنِ الْمُنْكَرِ بَيْنَ قَوْمٍ الْمَعْرُوفُ لَدَيْهِمْ مُنْكَرٌ وَالْمُنْكَرُ مَعْرُوفٌ .