فصل
قال : الدرجة الثانية : ، وهذا رجل ينطق عن موجوده ، ويسير مع مشهوده ، ولا يحس برعونة رسمه . استغراق الإشارة في الكشف
إنما كانت هذه الدرجة أرفع مما قبلها ؛ لأن صاحب الدرجة الأولى غايته أن [ ص: 198 ] يشير إلى ما تحققه وإن فارقه ، وصاحب هذه الدرجة قد فني عن الإشارة ، لغلبة توالي نور الكشف عليه ، فاستغراق الإشارة في الكشف هو ارتفاع حكمها فيه ، فإن الإشارة عندهم نداء على رأس العبد ، وبوح بمعنى العلة ، وقد ارتفعت العلل عن صاحب هذه الدرجة ، فاستغرقت إشارته في كشفه ، فلم يبق له إشارة في الكشف ، وإنما ترتفع الإشارة لاستغراق الكشف لها ، إلا أن صاحب هذه الدرجة فيه بقية من رعونة رسمه ، فلذلك قال : ولا يحس برعونة رسمه ، ورعونة الرسم : هي التفاته إلى إنيته .
وقوله : وهذا رجل ينطق عن موجوده .
أي : لا يستعير ما يذكره من الذوق والوجد من غيره ، ويكون لسانه ناطقا به على حال غيره وموجوده ، فهو ينطق عن أمر هو متصف به لا وصاف له .
قوله : " ويسير مع مشهوده " هو بالسين المهملة ؛ أي : يسير إلى الله عز وجل عن شهود وكشف ، لا مع حجاب وغفلة ، فهو سائر إلى الله بالله مع الله .
قوله : " ولا يحس برعونة رسمه " الرسم عندهم هو ذات العبد التي تفنى عند الشهود ، وليس المراد بفنائها عدمها من الوجود العيني ، بل عدمها من الوجود الذهني العلمي ، هذا مرادهم بقولهم : فني من لم يكن ، وبقي من لم يزل .
وقد يريدون به معنى آخر ، وهو : اضمحلال الوجود المحدث الحاصل بين عدمين ، وتلاشيه في الوجود الذي لم يزل ولا يزال .
وللملحد هاهنا مجال يجول فيه ، ويقول : إن الوجود المحدث لم تكن له حقيقة ، وإن الوجود القديم الدائم وحده هو الثابت لا وجود لغيره ، لا في ذهن ولا في خارج ، وإنما هو وجود فائض على الدوام على ماهيات معدومة ، فتكتسي بعين وجوده بحسب استعداداتها ، والمقصود : شرح كلام الشيخ .
والمراد برعونة الرسم هاهنا : بقية تبقى من صاحب الشهود ، لا يدركها لضعفها وقلتها ، واشتغاله بنور الكشف عن ظلمتها ، فهو لا يحس بها .