وأما يمين اللغو فقد اختلف في تفسيرها ، قال أصحابنا : هي اليمين الكاذبة خطأ أو غلطا في الماضي أو في الحال وهي أن يخبر عن الماضي أو عن الحال على الظن أن المخبر به كما أخبر وهو بخلافه في النفي أو في الإثبات ، نحو قوله : والله ما كلمت زيدا وفي ظنه أنه لم يكلمه ، أو والله لقد كلمت زيدا وفي ظنه أنه كلمه وهو بخلافه أو قال : والله إن هذا الجائي لزيد ، إن هذا الطائر لغراب وفي ظنه أنه كذلك ثم تبين بخلافه وهكذا روى ابن رستم عن أنه قال : اللغو أن يحلف الرجل على الشيء وهو يرى أنه حق وليس بحق . محمد
وقال الشافعي هي اليمين التي لا يقصدها الحالف وهو ما يجري على ألسن الناس في كلامهم من غير قصد اليمين من قولهم : لا والله ، وبلى والله ، سواء كان في الماضي أو الحال أو المستقبل . يمين اللغو
وأما عندنا فلا لغو في المستقبل بل اليمين على أمر في المستقبل يمين معقودة وفيها الكفارة إذا حنث ، قصد اليمين أو لم يقصد وإنما اللغو في الماضي والحال فقط ، وما ذكر على إثر حكايته عن محمد أن اللغو ما يجري بين الناس من قولهم لا والله وبلى والله فذلك محمول عندنا على الماضي أو الحال وعندنا ذلك لغو فيرجع حاصل الخلاف بيننا وبين أبي حنيفة في يمين [ ص: 4 ] لا يقصدها الحالف في المستقبل عندنا ليس بلغو وفيها الكفارة وعنده هي لغو ولا كفارة فيها . الشافعي
وقال بعضهم : يمين اللغو هي اليمين على المعاصي نحو أن يقول والله لا أصلي صلاة الظهر ولا أصوم صوم شهر رمضان أو لا أكلم أبوي أو يقول والله لأشربن الخمر أو لأزنين أو لأقتلن فلانا .
ثم منهم من يوجب الكفارة إذا حنث في هذه اليمين ومنهم من لا يوجب .
وجه قول هؤلاء أن اللغو هو الإثم في اللغة قال الله تعالى { وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه } أي كلاما فيه إثم ، فقالوا : إن معنى قوله تعالى - { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } أي لا يؤاخذكم الله بالإثم في أيمانكم على المعاصي بنقضها والحنث فيها لأن الله تعالى جعل قوله في سورة البقرة { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } صلة قوله - عز وجل - { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس } .
وقيل في القصة إن الرجل كان يحلف أن لا يصنع المعروف ولا يبر ولا يصل أقرباءه ولا يصلح بين الناس فإذا أمر بذلك يتعلل ويقول إني حلفت على ذلك فأخبر الله تعالى بقوله - سبحانه - { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } الآية لأنه لا مأثم عليهم بنقض ذلك اليمين وتحنيث النفس فيها وإن المؤاخذة بالإثم فيها بحفظها والإصرار عليها بقوله { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } وبقوله تعالى { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } ثم منهم من أوجب الكفارة لقوله تعالى في هذه الآية فكفارته إلى قوله { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } أي حلفتم وحنثتم ومنهم من لم يوجب فيها الكفارة أصلا لما نذكر - إن شاء الله تعالى - في بيان حكم اليمين .
وجه قول ما روي عن الشافعي عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن يمين اللغو فقالت : هي أن يقول الرجل في كلامه لا والله وبلى والله وعن رضي الله عنه أنه سئل عن يمين اللغو فقال : قالت عطاء : رضي الله عنها إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { عائشة } فثبت موقوفا ومرفوعا أن تفسير يمين اللغو ما قلنا من غير فصل بين الماضي والمستقبل فكان لغوا على كل حال إذا لم يقصده الحالف ولأن الله تعالى قابل يمين اللغو باليمين المكسوبة بالقلب بقوله - عز وجل - { هو كلام الرجل في بيته لا والله وبلى والله لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } والمكسوبة هي المقصودة فكان غير المقصودة داخلا في قسم اللغو تحقيقا للمقابلة .
( ولنا ) قوله تعالى - { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } قابل يمين اللغو باليمين المعقودة وفرق بينهما في المؤاخذة ونفيها فيجب أن تكون يمين اللغو غير اليمين المعقودة تحقيقا للمقابلة ، واليمين في المستقبل يمين معقودة سواء وجد القصد أو لا ولأن اللغو في اللغة اسم للشيء الذي لا حقيقة له .
قال الله تعالى { لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما } أي باطلا .
وقال - عز وجل - خبرا عن الكفرة { والغوا فيه لعلكم تغلبون } وذلك فيما قلنا وهو الحلف بما لا حقيقة له بل على ظن من الحالف أن الأمر كما حلف عليه والحقيقة بخلافه وكذا ما يجري على اللسان من غير قصد لكن في الماضي أو الحال فهو مما لا حقيقة له فكان لغوا ولأن اللغو لما كان هو الذي لا حقيقة له كان هو الباطل الذي لا حكم له فلا يكون يمينا معقودة لأن لها حكما .
ألا ترى أن المؤاخذة فيها ثابتة وفيها الكفارة بالنص ؟ فدل أن المراد من اللغو ما قلنا وهكذا روي عن رضي الله عنهما في تفسير يمين اللغو هي أن يحلف الرجل على اليمين الكاذبة وهو يرى أنه صادق وبه تبين أن المراد من قول ابن عباس عائشة رضي الله عنها وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمين اللغو ما يجري في كلام الناس لا والله وبلى والله في الماضي لا في المستقبل ، والدليل عليه أنها فسرتها بالماضي في بعض الروايات .
وروي عن مطر عن رجل قال دخلت أنا على وعبد الله بن عمر عائشة رضي الله عنها فسألتها عن يمين اللغو فقالت قول الرجل فعلنا والله كذا وصنعنا والله كذا فتحمل تلك الرواية على هذا توفيقا بين الروايتين إذ المجمل محمول على المفسر وأما قوله : إن الله - سبحانه وتعالى - قابل اللغو باليمين المكسوبة فنقول : في تلك الآية قابلها بالمكسوبة ، وفي هذه الآية قابلها بالمعقودة ، ومتى أمكن حمل الآيتين على التوافق كان أولى من الحمل على التعارض فنجمع بين حكم الآيتين فنقول : يمين اللغو التي هي غير مكسوبة وغير معقودة ، والمخالف عطل إحدى الآيتين فكنا أسعد حالا منه .
وأما قوله تعالى - { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا } الآية فقد روي عن رضي الله عنهما أن ذلك نهي عن الحلف على الماضي معناه { ابن عباس ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا } أي لا تحلفوا أن [ ص: 5 ] لا تبروا ويجوز إضمار حرف لا في موضع القسم وغيره قال الله تعالى { ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى } أي لا يؤتوا ويحتمل أن تكون الآية عامة أي لا تحلفوا لكي تبروا فتجعلوا الله عرضة بالحنث بعد ذلك بترك التعظيم بترك الوفاء باليمين ، يقال فلان عرضة للناس أي لا يعظمونه ويقعون فيه فيكون هذا نهيا عن الحلف بالله تعالى إذا لم يكن الحالف على يقين من الإصرار على موجب اليمين وهو البر أو غالب الرأي والله - عز وجل أعلم - .