( وأما ) بيان قدر فجملة الكلام فيه أن النشوز لا يخلو إما أن كان من قبل الزوج وإما إن كان من قبل المرأة فإن كان من قبل الزوج فلا يحل له أخذ شيء من العوض على المخلع لقوله تعالى : { ما يحل للزوج من أخذ العوض وما لا يحل وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا } نهى عن أخذ شيء مما آتاها من المهر وأكد النهي بقوله : { أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا } ، وقوله : { ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن } أي : لا تضيقوا عليهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } أي : إلا أن ينشزن ; نهى الأزواج عن أخذ شيء مما أعطوهن واستثنى حال نشوزهن .
وحكم المستثنى يخالف حكم المستثنى منه فيقتضي حرمة أخذ شيء مما أعطوهن عند عدم النشوز منهن ، وهذا في حكم الديانة ، فإن أخذ جاز ذلك في الحكم ولزم حتى لا يملك استرداده ; لأن الزوج أسقط ملكه عنها بعوض رضيت به ، والزوج من أهل الإسقاط .
والمرأة من أهل المعاوضة والرضا فيجوز في الحكم والقضاء ، وإن كان النشوز من قبلها فلا بأس بأن يأخذ منها شيئا قدر المهر لقوله تعالى : { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } أي : إلا أن ينشزن ، والاستثناء من النهي إباحة من حيث الظاهر ، وقوله { : فلا جناح عليهما فيما افتدت به } ; قيل أي : لا جناح على الزوج في الأخذ وعلى المرأة في الإعطاء .
وأما ففيها روايتان ذكر في كتاب الطلاق أنها مكروهة وهكذا روي عن الزيادة على قدر المهر رضي الله عنه أنه كره للزوج أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها وهو قول علي الحسن البصري وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير . وطاوس
وذكر في الجامع الصغير أنها غير مكروهة - وهو - وبه أخذ عثمان البتي . الشافعي
وجه هذه الرواية ظاهر قوله تعالى : { فلا جناح عليهما فيما افتدت به } ، رفع الجناح عنهما في الأخذ والعطاء من الفداء من غير فصل بين ما إذا كان مهر المثل أو زيادة عليه ، فيجب العمل بإطلاق النص ، ولأنها أعطت مال نفسها بطيبة من نفسها وقد قال الله تعالى : { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا } ، بخلاف ما إذا كان النشوز من قبله ; لأن النشوز إذا كان من قبل الزوج كانت هي مجبورة في دفع المال ; لأن الظاهر أنها مع رغبتها في الزوج لا تعطي إذا كانت مضطرة من جهته بأسباب أو مغترة بأنواع التغرير والتزوير فكره الأخذ .
وجه رواية الأصل : { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله } إلى قوله { فلا جناح عليهما فيما افتدت به } نهى عن أخذ شيء مما أعطاها من المهر واستثنى القدر الذي أعطاها من المهر عند خوفهما ترك إقامة حدود الله على ما نذكر ، والنهي عن أخذ شيء من المهر نهي عن أخذ الزيادة على المهر من طريق الأولى كالنهي عن التأفيف أنه يكون نهيا عن الضرب - الذي هو فوقه - بالطريق الأولى .
وروي أن { لامرأة ثابت بن قيس بن شماس : أتردين عليه حديقته ؟ فقالت : نعم وزيادة قال : أما الزيادة فلا } نهى عن الزيادة مع كون النشوز من قبلها وبه تبين أن المراد من قوله { رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال فيما افتدت } قدر المهر لا الزيادة عليه ، وإن كان ظاهره عاما عرفنا ببيان النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو وحي غير متلو ، والدليل عليه أيضا قوله تعالى : في صدر الآية { : ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا } ذكر في أول الآية ما آتاها فكان المذكور في آخرها - وهو قوله : { فيما افتدت به } - مردودا إلى أولها فكان المراد من قوله { : فيما افتدت } أي : بما آتاها [ ص: 151 ] ونحن به نقول : إنه يحل له قدر ما آتاها .
وأما قوله : أنها أعطته مال نفسها بطيبة من نفسها فنعم لكن ذاك دليل الجواز ، وبه نقول : إن الزيادة جائزة في الحكم ، والقضاء ، ولأن الخلع - من جانبها - معاوضة حالة عن الطلاق ، وإسقاط ما عليها من الملك ، ودفع المال عوضا عما ليس بمال جائز في الحكم إذا كان ذلك مما يرغب فيه ألا ترى أنه جاز العتق على قليل المال ، وكثيره ، وأخذ المال بدلا عن إسقاط الملك ، والرق ، وكذلك الصلح عن دم العمد ، وكذلك النكاح لما جاز على أكثر من مهر مثلها ، وهو بدل البضع فكذا جاز أن تضمنه المرأة بأكثر من مهر مثلها ; لأنه بدل من سلامة البضع في الحالين جميعا ، إلا أنه نهى عن الزيادة على قدر المهر لا لمعنى في نفس العقد بل المعنى في غيره ، وهو شبهة الربا ، والإضرار بها ، ولا يوجد ذلك في قدر المهر فحل له أخذ قدر المهر ، والله أعلم .