ثم اختلف أهل العلم أنه الحيض أم الأطهار ؟ قال أصحابنا : الحيض . فيما تنقضي به هذه العدة
وقال : الأطهار ، وفائدة الاختلاف أن من طلق امرأته في حالة الطهر لا يحتسب بذلك الطهر من العدة عندنا حتى لا تنقضي عدتها ما لم تحض ثلاث حيض بعده ، وعنده يحتسب بذلك الطهر من العدة فتنقضي عدتها بانقضاء ذلك الطهر الذي طلقها فيه ، وبطهر آخر بعده ، والمسألة مختلفة بين الصحابة رضي الله عنهم . الشافعي
وروي عن أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عباس ، وأبي موسى الأشعري ، وأبي الدرداء ، وعبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنهم أنهم قالوا : الزوج أحق بمراجعتها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة كما هو مذهبنا . ، وعبد الله بن قيس
وعن زيد بن ثابت ، وحذيفة ، وعبد الله بن عمر ، وعائشة رضي الله عنهم مثل قوله ، وحاصل الاختلاف راجع إلى أن ثلاثة قروء } ما هو الحيض أم الطهر فعندنا الحيض ، وعنده الطهر ولا خلاف بين أهل اللغة في أن القرء من الأسماء المشتركة يذكر ، ويراد به الحيض ، ويذكر ، ويراد به الطهر على طريق الاشتراك فيكون حقيقة لكل واحد منهما كما في سائر الأسماء المشتركة من اسم العين ، وغير ذلك ، أما استعماله في الحيض فلقول [ ص: 194 ] النبي صلى الله عليه وسلم { القرء المذكور في قوله سبحانه { } أي : أيام حيضها إذ أيام الحيض هي التي تدع الصلاة فيها لا أيام الطهر . المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها
وأما في الطهر فلما روينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رضي الله عنهما { لعبد الله بن عمر } ، وإذا كان الاسم حقيقة لكل واحد منهما على سبيل الاشتراك فيقع الكلام في الترجيح احتج إن من السنة أن تستقبل الطهر استقبالا فتطلقها لكل قرء تطليقة أي : طهر بقوله تعالى { الشافعي فطلقوهن لعدتهن } وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم العدة بالطهر في ذلك الحديث حيث قال { } فدل أن العدة بالطهر لا بالحيض ; ولأنه أدخل الهاء في الثلاثة بقوله عز وجل : { فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء ثلاثة قروء } .
وإنما تدخل الهاء في جمع المذكر لا في جمع المؤنث يقال ثلاثة رجال ، وثلاث نسوة ، والحيض مؤنث ، والطهر مذكر فدل أن المراد منها الأطهار ، ; ولأنكم لو حملتم القرء المذكور على الحيض للزمكم المناقضة ; لأنكم قلتم في المطلقة إذا كانت أيامها دون العشرة فانقطع دمها أنه لا تنقضي عدتها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة ، فقد جعلتم العدة بالطهر ، وهذا تناقض .
( ولنا ) الكتاب ، والسنة ، والمعقول أما الكتاب الكريم فقوله تعالى { ، والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } أمر الله تعالى بالاعتداد بثلاثة قروء ، ولو حمل القرء على الطهر لكان الاعتداد بطهرين ، وبعض الثالث ; لأن بقية الطهر الذي صادفه الطلاق محسوب من الأقراء عنده ، والثلاثة اسم لعدد مخصوص ، والاسم الموضوع لعدد لا يقع على ما دونه فيكون ترك العمل بالكتاب ولو حملناه على الحيض يكون الاعتداد بثلاث حيض كوامل ; لأن ما بقي من الطهر غير محسوب من العدة عندنا فيكون عملا بالكتاب فكان الحمل على ما قلنا أولى ولا يلزم قوله تعالى { الحج أشهر معلومات } أنه ذكر الأشهر ، والمراد منه شهران ، وبعض الثالث ، فكذا القروء جائز أن يراد بها القرءان ، وبعض الثالث ; لأن الأشهر اسم جمع لا اسم عدد واسم الجمع جاز أن يذكر ، ويراد به بعض ما ينتظمه مجازا ولا يجوز أن يذكر الاسم الموضوع لعدد محصور ، ويراد به ما دونه لا حقيقة ولا مجازا .
ألا ترى أنه لا يجوز أن يقال : رأيت ثلاثة رجال ، ويراد به رجلان وجاز أن يقال رأيت رجالا ، ويراد به رجلان مع أن هذا إن كان في حد الجواز ، فلا شك أنه بطريق المجاز ولا يجوز العدول عن الحقيقة من غير دليل ; إذ الحقيقة هي الأصل في حق الأحكام للعمل بها ، وإن كان في حق الاعتقاد يجب التوقف لمعارضة المجاز الحقيقة في الاستعمال ، وفي باب الحج قام دليل المجاز وقوله عز وجل { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر } جعل سبحانه وتعالى الأشهر بدلا عن الأقراء عند اليأس عن الحيض ، والمبدل هو الذي يشترط عدمه لجواز إقامة البدل مقامه فدل أن المبدل هو الحيض فكان هو المراد من القرء المذكور في الآية كما في قوله تعالى { فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } لما شرط عدم الماء عند ذكر البدل ، وهو التيمم دل أن التيمم بدل عن الماء فكان المراد منه الغسل المذكور في آية الوضوء ، وهو الغسل بالماء .
كذا ههنا .
وأما السنة فما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { } ، ومعلوم أنه لا تفاوت بين الحرة ، والأمة في العدة فيما يقع به الانقضاء ; إذ الرق أثره في تنقيص العدة التي تكون في حق الحرة لا في تغيير أصل العدة ، فدل أن أصل ما تنقضي به العدة هو الحيض وأما المعقول فهو أن هذه العدة وجبت للتعريف عن براءة الرحم ، والعلم ببراءة الرحم يحصل بالحيض لا بالطهر فكان الاعتداد بالحيض لا بالطهر . طلاق الأمة ثنتان ، وعدتها حيضتان
وأما الآية الكريمة فالمراد من العدة المذكورة فيها عدة الطلاق ، والنبي صلى الله عليه وسلم جعل الطهر عدة الطلاق .
ألا ترى أنه قال { } ، والكلام في العدة عن الطلاق أنها ما هي وليس في الآية بيانها . فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء
وأما قوله أدخل الهاء في الثلاثة فنعم لكن هذا لا يدل على أن المراد هو الطهر من القروء ; لأن اللغة لا تمنع من تسمية شيء واحد باسم التذكير ، والتأنيث كالبر ، والحنطة فيقال : هذا البر ، وهذه الحنطة ، وإن كانت البر ، والحنطة شيئا واحدا ، فكذا القرء ، والحيض أسماء للدم المعتاد ، وأحد الاسمين مذكر ، وهو القرء فيقال : ثلاثة قروء ، والآخر مؤنث ، وهو الحيض فيقال : ثلاث حيض ، ودعوى التناقض ممنوعة فإن في تلك الصورة الحيض باق ، وإن كان الدم منقطعا ; لأن انقطاع الدم لا ينافي الحيض بالإجماع ; لأن [ ص: 195 ] الدم لا يدر في جميع الأوقات بل في وقت دون وقت ، واحتمال الدرور في وقت الحيض قائم فإذا لم يجعل ذلك الطهر عدة لا يلزمنا التناقض .