وأما الإضافة إلى وقت موصوف .
فنحو أن ، ولا شك أنه لا يعتق قبل وجود الوقت الموصوف ، حتى لو وجد شيء من هذه الحوادث قبل تمام الشهر لا يعتق ; لأنه أضاف العتق إلى الوقت الموصوف ، فلا يثبت قبله ، ويشترط تمام الشهر وقت التكلم ، وإن كان العبد في ملكه قبل ذلك بشهور بل بسنين ; لأن إضافة العتق إلى وقت إيجاب العتق فيه غير إيجاب العتق في الزمان الماضي ، وإيجاب العتق في الزمان الماضي لا يتصور فلا يحمل كلام العاقل عليه ، ولا شك أن العتق ثبت عند وجود هذه الحوادث لتمام الشهر ، واختلف في كيفية ثبوته ، فقال يقول لعبده أنت حر قبل دخولك الدار بشهر ، أو قبل قدوم فلان بشهر ، أو قبل موت فلان بشهر : يثبت من أول الشهر بطريق الظهور ، وقال زفر أبو يوسف : يثبت مقتصرا على حال وجود الحوادث ، ومحمد فرق بين القدوم والدخول وبين الموت ، فقال في القدوم والدخول كما قالا ، وفي الموت كما قال وأبو حنيفة ، حتى لو كان المملوك أمة فولدت في وسط الشهر يعتق الولد في قول زفر أبي حنيفة ، وعندهما لا يعتق . وزفر
وجه قول أنه أوقع العتق في وقت موصوف بكونه متقدما على هذه الحوادث بشهر ، فإذا وجدت بعد شهر متصلة به علم أن الشهر من أوله كان موصوفا بالتقدم عليها لا محالة ، فتبين أن العتق كان واقعا في أول الشهر كما إذا زفر ، ولا فرق سوى أن هناك يحكم بالعتق من أول هلال شعبان ولا يتوقف على مجيء شهر رمضان ، وههنا لا يحكم بالعتق من أول الشهر ; لأن ثمة رمضان يتصل بشعبان لا محالة ، وههنا وجود هذه الحوادث يحتمل أن يتصل بهذا الشهر ويحتمل أن لا يتصل لجواز أنها لا توجد أصلا . قال : أنت حر قبل رمضان بشهر
فأما في ثبوت العتق في المسألتين من ابتداء الشهر ، فلا يختلفان ، ولهذا قال : ثبوت العتق بطريق الظهور في الموت . أبو حنيفة
وجه قولهما أن هذا في الحقيقة تعليق العتق بهذه الحوادث ; لأنه أوقع العتق في شهر متصف بالتقدم على هذه الحوادث ، ولا يتصف بالتقدم عليها إلا باتصالها به ، ولا تتصل به إلا بعد وجودها ، فكان ثبوت العتق على هذا التدريج متعلقا بوجود هذه الحوادث ، فيقتصر على حال وجودها ، ولهذا قال : هكذا في الدخول والقدوم كذا في الموت بخلاف شعبان ; لأن اتصاف شعبان بكونه متقدما على رمضان لا يقف على مجيء رمضان ووجه الفرق أبو حنيفة بين الدخول والقدوم وبين الموت أن في مسألة القدوم والدخول بعد ما مضى شهر من وقت التكلم يبقى الشهر الذي أضيف إليه العتق هو موهوم الوجود ، قد يوجد وقد لا يوجد ; لأن قدوم فلان موهوم الوجود قد يوجد وقد لا يوجد ، فإن وجد يوجد هذا الشهر ، وإلا فلا ; لما ذكرنا أن هذا الشهر لا وجود له بدون الاتصاف ولا اتصاف بدون الاتصال ولا اتصال بدون القدوم ، إذ الاتصال إنما يتصور بين موجودين لا بين موجود ومعدوم فصار العتق ، وإن كان مضافا إلى الشهر متعلقا بوجود القدوم فكان هذا تعليقا ضرورة فيقتصر الحكم المتعلق به على حال وجود الشرط كما في سائر التعليقات ، فأما في مسألة الموت فبعد ما مضى شهر من زمن الكلام لم يبق ذات الشهر الذي أضيف إليه العتق موهوم الوجود ، بل هو كائن لا محالة ; لأن الموت كائن لا محالة ، فصار هذا الشهر متحقق الوجود بلا شك بخلاف الشهر المتقدم على الدخول والقدوم ، غير أنه مجهول الذات ، فلا يحكم بالعتق قبل وجود الموت ، وإذا وجد ، فقد وجد المعرف للشهر ، بخلاف الشهر [ ص: 82 ] المتقدم على شهر رمضان فإنه معلوم الذات ; لأنه كما وجد شعبان علم أنه موصوف بالتقدم على رمضان ، وههنا بخلافه وبخلاف القدوم والدخول ، فإن بعد مضي شهر من وقت الكلام بقي ذات الشهر الذي أضيف إليه العتق موهوم الوجود ، فلم يكن القدوم معرفا للشهر بل كان محصلا للشهر الموصوف بهذه الصفة بحيث لولا وجوده لما وجد هذا الشهر ألبتة ، فكان الموت مظهرا معينا للشهر فيظهر من الأصل من حين وجوده . لأبي حنيفة
ثم اختلف مشايخنا في كيفية الظهور : على مذهب قال بعضهم : هو ظهور محض ، فتبين أن العتق كان واقعا من أول الشهر من غير اعتبار حالة الموت ، وهو أن يعتبر الوقوع ، أو لا ثم يسري إلى أول الشهر ; لأن الأصل اعتبار التصرف على الوجه الذي أثبته المتصرف والمتصرف أضاف العتق إلى أول الشهر المتقدم على الموت ، فيقع في أول الشهر لا في آخره ، فكان وقت وقوع الطلاق أول الشهر ، فيظهر أن العتق وقع من ذلك الوقت ، كما إذا قال : إن كان فلان في الدار فعبده حر ، فمضت مدة ، ثم علم أنه كان في الدار يوم التكلم يقع العتق من وقت التكلم لا من وقت الظهور ، وهؤلاء قالوا : لو كان مكان العتاق طلاق ثلاث فالعدة تعتبر من أول الشهر في قول أبي حنيفة ، حتى لو حاضت في الشهر حيضتين ، ثم مات فلان كانت الحيضتان محسوبتين من العدة ، ولو كان قال : أنت طالق قبل موت فلان بشهرين ، أو ثلاثة أشهر ، ثم مات فلان لتمام المدة ، أو كانت المرأة رأت ثلاثة حيض في المدة ، تبين عند موته أن الطلاق كان واقعا ، وأن العدة قد انقضت . أبي حنيفة
كما تبين أنها قد طلقت من ذلك الوقت ، وأنها منقضية العدة كذا هذا ، وكذلك لو قال : إن كان حمل فلانة غلاما فأنت طالق ، فولدت غلاما يقع الطلاق على طريق التبيين كذا هذا ، والذي يؤيد ما قلنا : إن رجلا لو قال : آخر امرأة أتزوجها فهي طالق فتزوج امرأة ، ثم أخرى ، ثم ماتت طلقت الثانية على وجه التبيين المحض عند لو قال : إن كان زيد في الدار فامرأتي طالق ، ثم علم بعدما حاضت المرأة ثلاثة حيض أنه كان في الدار يوم التكلم به ، وإن كان لا يحكم بطلاقها ما لم يمت كذا ههنا ، وقالوا لو خالعها في وسط الشهر ، ثم مات فلان لتمام الشهر فالخلع باطل ويؤمر الزوج برد بدل الخلع سواء كانت عند الموت معتدة ، أو منقضية العدة ، أو كانت ممن لا عدة عليها بأن كانت غير مدخول بها ، وهؤلاء طعنوا فيما ذكر أبي حنيفة في الكتاب لتخريج قول محمد أنه إن مات فلان وهي في العدة يحكم ببطلان الخلع ويؤمر الزوج برد بدل الخلع ، وإن كانت غير معتدة وقت موت فلان بأن كان بعد الخلع قبل موت فلان أسقطت سقطا أو كانت غير مدخول بها لا يبطل الخلع ولا يؤمر الزوج برد بدل الخلع ، وقالوا : هذا التخريج لا يستقيم على قول أبي حنيفة ; لأن هذا ظهور محض فتبين عند وجود الجزء الأخير أن هذا الشهر من ابتداء وجوده موصوف بالتقدم ، فتبين أن الطلقات الثلاث كانت واقعة من ذلك الوقت سواء كانت معتدة ، أو غير معتدة ، كما لو أبي حنيفة أنه يتبين أن الخلع كان باطلا على الإطلاق سواء كانت معتدة ، أو لم تكن كذا ههنا ، والفقه أن وقت الموت إذا لم يكن وقت وقوع الطلاق لا يعتبر فيه قيام الملك والعدة ، وعامة مشايخنا قالوا : إن العتق ، أو الطلاق يقع وقت الموت ، ثم يستند إلى أول الشهر ، إلا أنه يظهر أنه كان واقعا من أول الشهر ، ووجهه مما لا يمكن الوصول إليه إلا بمقدمة وهي أن ما كان الدليل على وجوده قائما يجعل موجودا في حق الأحكام ; لأن إقامة الدليل مقام المدلول أصل في الشرع والعقل . قال : إن كان فلان في الدار فامرأته طالق ، ثم خالعها ، ثم تبين أنه كان يوم الحلف في الدار
ألا ترى أن الخطاب يدور مع دليل القدرة وسببها دون حقيقة القدرة ، ومع دليل العلم وسببه دون حقيقة العلم ، حتى لا يعذر الجاهل بالله عز وجل لقيام الآيات الدالة على وجود الصانع ، ولا بالشرائع عند إمكان الوصول إلى معرفتها بدليلها ، ثم الدليل ، وإن خفي بحيث يتعذر الوصول إليه يكتفى به إذا كان ممكن الحصول في الجملة ، إذ الدلائل تتفاوت في نفسها في الجلاء والخفاء ، والمستدلون أيضا يتفاوتون في الغباوة والذكاء ، فالشرع أسقط اعتبار هذا التفاوت فكانت العبرة لأصل الإمكان في هذا الباب .
وأما ما كان الدليل في حقه منعدما فهو في حق الأحكام ملحق بالعدم ، وإذا عرف هذا فنقول : الشهر الذي يموت فلان في آخره فإن اتصف بالتقدم من وقت وجوده لكن كان دليل اتصافه منعدما أصلا فلم يكن لهذا الاتصاف عدة ، ويبقى ملك النكاح إلى آخر جزء من أجزاء الشهر فيعلم [ ص: 83 ] كونه متقدما على موته ، ومن ضرورة اتصاف هذا الجزء بالتقدم اتصاف جميع الأجزاء المتقدمة عليه إلى تمام الشهر ، ولا يظهر أن دليل الاتصاف كان موجودا في أول الشهر ، إذ الدليل هو آخر جزء من أجزاء الشهر ، ووجود الجزء الأخير من الشهر مقارنا لأول الشهر محال ، فلم يكن دليل اتصاف الشهر بكونه متقدما موجودا فلم يعتبر هذا الاتصاف ، فبقي ملك النكاح إلى وقت وجود الجزء الأخير فيحكم في هذا الجزء بكونها طالقا ، ومن ضرورة كونها طالقا في هذا الجزء ثبوت الانطلاق من الأصل ; لأنها تكون طالقا بذلك الطلاق المضاف إلى أول الشهر الموصوف بالتقدم على الموت ، فلأجل هذه الضرورة حكم بالطلاق من أول الشهر ، لكن بعد ما كان النكاح إلى هذا الوقت قائما لعدم دليل الاتصاف بالتقدم على ما بينا ، ثم لما حكم بكونها طالقا للحال وثبت الانطلاق فيما مضى من أول الشهر ضرورة ، جعل كأن الطلاق يقع للحال ، ثم بعد وقوعه يسري إلى أول الشهر ، هكذا يوجب ضرورة ما بينا من الدليل ، وإذا جعل هكذا يخرج عليه المسائل أما العدة فإنها تجب في آخر جزء من أجزاء حياة فلان الميت ; لأنها مما يحتاط في إيجابها فوجبت للحال ، وجعل كأن الطلاق وقع للحال .
وأما الخلع فإن كانت العدة باقية وقت الموت لم يصح ، وإن كانت منقضية العدة صح ; لأنها إذا كانت باقية كان النكاح باقيا من وجه ويحكم ببقائه إلى هذه الحالة لضرورة عدم الدليل ، ثم يحكم للحال بكونها طالقا بذلك الطلاق المضاف وسرى واستند إلى أول الشهر علم أنه خالعها وهي بائنة عنه فلم يصح الخلع ويؤمر الزوج برد بدل الخلع ، وإذا كانت منقضية العدة وقت الموت فالنكاح الذي كان يبقى إلى آخر جزء من أجزاء حياته لضرورة عدم الدليل لا يبقى لارتفاعه بالخلع ، فبقي النكاح إلى وقت الخلع ولم يظهر أنه كان مرتفعا عند الخلع ، فحكم بصحة الخلع ولا يؤمر الزوج برد بدل الخلع ، بخلاف ما إذا قال إن كان زيد في الدار ; لأن دليل الوقوف على كون زيد في الدار موجود حالة التكلم فانعقد الطلاق تنجيزا لو كان هو في الدار ; لأن التعليق بالموجود تحقق ، وبخلاف ما إذا قال : إن كان حمل فلانة غلاما ; لأن الولد في البطن يمكن الوقوف في الجملة على صفة الذكورة والأنوثة فإنه ما من ساعة إلا ويجوز أن يسقط الحمل ، فانعقد الطلاق تنجيزا ، ثم علمنا بعد ذلك ، وبخلاف ما إذا قال : آخر امرأة أتزوجها فهي طالق فتزوج امرأة ، ثم أخرى ، ثم مات أنه يقع الطلاق على الثانية من طريق التبيين ; لأن هناك لما تزوج الثانية اتصفت بكونها آخر الوجود حدا لآخر وهو الفرد اللاحق وهي فرد وهي لاحقة .
ألا ترى أنه يقول : امرأتي الأولى وامرأتي الأخيرة إلا أنه لا يحكم بوقوع الطلاق للحال لاحتمال أنه يتزوج بثالثة فتسلب صفة الآخرية عن الثانية ، فإذا مات قبل أن يتزوج بثالثة تقررت صفة الآخرية للثانية من الأصل ، فحكم بوقوع الطلاق من ذلك الوقت ، وههنا دليل اتصاف الشهر بالتقدم منعدم في أول الشهر وما لا دليل عليه يلحق بالعدم وهو هذا ، بخلاف ما إذا قال لامرأته : إن لم أتزوج عليك فأنت طالق ، ولم يتزوج حتى مات أنه يقع الطلاق على امرأته مقتصرا على الحال ; لأن هناك علق الطلاق صريحا بعدم التزوج ، والعدم يستوعب العمر ألا ترى أنه لو تزوج في العمر مرة لا يوصف بعدم التزوج ; لأن الوجود قد تحقق والعدم يقابل الوجود ، فلا يتحقق مع الوجود فيتم ثبوته عند الموت ، والمعلق بشرط ينزل عند تحقق الشرط بتمامه فوقع مقتصرا على حال وجود الشرط .
وأما هذا فليس بتعليق الطلاق بشرط بل هو إضافة الطلاق إلى وقت موصوف بصفة فيتحقق الطلاق عند تحقق الصفة بدليله على التقدير الذي ذكرنا ، والله عز وجل الموفق .