وأما البينة : فجملة الكلام فيها أنه لا خلاف في أنها تقبل على عتق المملوك إذا سواء كان المملوك عبدا أو جارية ، فأما إذا لم يدع وأنكر العتق ، والمولى أيضا منكر فهل تقبل الشهادة على عتقه من غير دعواه ؟ فإن كان المملوك جارية تقبل بالإجماع ، وإن كان عبدا لا تقبل في قول ادعى المملوك العتق وأنكر المولى ، وعند أبي حنيفة أبي يوسف تقبل من أصحابنا من حمل المسألة على أن عتق العبد حق العبد عند ومحمد والشهادة على حقوق العباد لا تقبل من غير دعاويهم كالأموال وسائر حقوق العباد ، وعندهما هي حق الله تعالى والشهادة على حقوق الله عز وجل مقبولة من غير دعوى أحد ، كالشهادة على إعتاق الإنسان أمته وتطليقه امرأته ، والشهادة على أسباب الحدود الخالصة لله عز وجل من الزنا والشرب والسكر ، إلا السرقة فإنه شرط فيها الدعوى لتحقيق السبب ، إذ لا يظهر كون الفعل سرقة شرعا بدون الدعوى ; لما نذكر في كتاب السرقة فنتكلم في المسألة بناء وابتداء ، أما البناء ، فوجه قولهما أن في الإعتاق تحريم الاسترقاق وحرمة الاسترقاق حق الله تعالى قال النبي صلى الله عليه وسلم { أبي حنيفة } وكذا يتعلق به أهلية وجوب حقوق الله عز وجل من الكفارات والزكوات والجمع والجماعات ، فثبت أن العتق حق الله تعالى ، فلا يشترط فيه الدعوى لقبول الشهادة القائمة عليه ، كما في عتق الأمة وطلاق المرأة وكما في الحدود الخالصة ، وكذا الأحكام تدل على أن الدعوى ليست بشرط فإن الشهادة على حرية الأصل للعبد تقبل من غير دعواه ، وكذا الشهادة على نسب صبي صغير من رجل وأنكر الرجل ، وكذا الشهادة على المولى باستيلاد جاريته وهما منكران ، وكذا التناقض في العتق لا يمنع صحة الدعوى بأن : ثلاثة أنا خصمهم ، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة ، وذكر من جملتها رجلا باع حرا وأكل ثمنه . قال عبد لإنسان : اشترني فإني عبد فلان ، فاشتراه ، ثم ادعى العبد حرية الأصل ، تسمع دعواه
ولو كانت الدعوى فيه شرطا لكان التناقض مانعا من صحة الدعوى كما في سائر الدعاوى .
أن الإعتاق إثبات العتق ، والعتق في عرف اللغة والشرع اسم لقوة حكمية تثبت للعبد تندفع بها يد الاستيلاد والتملك عنه ، والحرية حقه إذ هو المنتفع بها مقصودا ، ألا ترى أنه هو الذي يتضرر بانتفائها مقصودا بالاسترقاق ، وكذا التحرير إثبات الحرية ، والحرية في متعارف الشرع واللغة تنبئ عن خلوص نفس العبد له عن الرق والملك وذلك حقه ; لأنه هو المنتفع به دون غيره مقصودا وحق الإنسان ما ينتفع هو به دون غيره ، فإذا ثبت أن العتق حق العبد فالشهادة القائمة على عتق العبد لا تقبل من غير دعواه ، كسائر الشهادات القائمة على سائر حقوق العباد ، والجامع بينهما من وجهين : أحدهما أن المشهود به إذا كان حقا للعبد كان العبد مشهودا له ، فإذا أنكر فقد كذب شهوده ، والمشهود له إذا كذب شهوده لا تقبل شهادتهم له . ولأبي حنيفة
والثاني أن إنكار المشهود له حقه مع حاجته إلى استيفاء حقه لينتفع به يوجب تهمة في الشهادة ; لأن المشهود به لو كان ثابتا لتبادر إلى الدعوى ولا شهادة لمتهم .
وأما قوله : في الإعتاق تحريم الاسترقاق ، فنقول : الإعتاق لا ينبئ عن ذلك وإنما ينبئ عن إثبات القوة والخلوص على ما بينا وذلك حقه ، ثم إذا ثبت حقه بالإعتاق حرم الاسترقاق ; لما فيه من إبطال حقه وهذا لا يدل على أن حرمة الاسترقاق حق الله عز وجل ألا ترى أن سائر الحقوق الثابتة للعباد يحرم إبطالها ولا يدل على أن حرمة إبطالها حق الله تعالى على أنا إن سلمنا أن في العتق حق الله تعالى فالمقصود حاصل ; لأنه من حيث إنه حق الله تعالى تقبل الشهادة عليه من غير دعوى العبد ، ومن حيث إنه حق العبد لا تقبل فدارت الشهادة بين القبول وعدم القبول فلا تقبل مع الشك ; ولهذا لم تقبل الشهادة على القذف من غير دعوى المقذوف ، وإن كان حد القذف حق الله تعالى من وجه وحق العبد من وجه ، كذا ههنا .
وأما الأحكام ، فأما عتق الأمة فثمة هكذا نقول : إن تلك الشهادة لا تقبل على العتق [ ص: 111 ] من حيث ذات العتق ; لما قلنا في العبد ، وإنما تقبل من حيث إن عتق الأمة حق الله تعالى على الخلوص من حيث إنه سبب لتحريم الفرج ووسيلة إليه ، والشيء من حيث التسبب والتوسل غير ومن حيث الذات غير ، كما قلنا في كفر المحارب : إنه يوجب القتل من حيث إنه سبب للحراب لا من حيث ذاته بل ذات الكفر غير موجب ; لأنهما غيران ، كذا هذا
ألا ترى أنه ينفصل أحدهما عن الآخر ، فإن العتق قد لا يكون وسيلة إلى تحريم الفرج وهو عتق العبد ، ثم متى قبلت على العتق من حيث إنه سبب حرمة الفرج تقبل من حيث ذات العتق .
وكذا في طلاق المرأة من غير دعواها ، وليس للعتق في محل النزاع سببية تحريم الفرج ، فلو قبل لقبل على ذات العتق ولا وجه إليه ; لما بينا فإنه قيل : ما ذكرتم من العذر في فصل الأمة والطلاق لا يصح ; لأن مقبولة من غير دعوى ، وهذه الشهادة لا تتضمن حرمة الفرج ; لأن الحرمة كانت ثابتة قبل ذلك ، وكذا الشهادة على عتق الأمة المجوسية والأخت من الرضاعة ، ولا تتضمن هذه الشهادة تحريم الفرج ، فالجواب أن من أصحابنا من يمنع المسألتين الأولتين فقالوا : لا تقبل الشهادة فيهما من غير دعوى ; لأنها لا تتضمن تحريم الفرج ومنهم من سلم مسألة المجوسية ومنع مسألة الأخت من الرضاعة ، وفرق بينهما من حيث إن وطء الأمة المجوسية مملوك للمولى وإنما منع من الاستيفاء لخبثها كما يمنع من الوطء حالة الحيض ; ولهذا لو وطئها لا يسقط إحصانه ، وبعد العتق لو وطئها يسقط إحصانه ، فالشهادة على عتقها تضمنت تحريم الفرج فقبلت من غير دعوى ، فأما الأخت من الرضاعة فحرام الوطء حقيقة ، حتى لو وطئها يسقط إحصانه مع قيام ملك اليمين والمعتبر في الباب تحريم الفرج لا الأنوثة ، الشهادة على الطلاق الرجعي والطلاق المضاف إلى الملك يقبل من غير دعوى قط لا تقبل من غير دعوى ، وفيما ذكر من المسألة وهي ما إذا كان صغيرا فلا تقبل عند والشهادة على النسب ما لم ينصب القاضي خصما عن الصغير ليدعي النسب له بطريق النيابة شرعا ; نظرا للصغير العاجز عن إحياء حقه بنفسه والقاضي نصب ناظرا للمسلمين وكان ذلك شهادة على خصم . أبي حنيفة
وأما الاستيلاد فهو سبب لتحريم الفرج والدعاوى في الجملة ; لأنه يوجب حقيقة الحرية عند الموت ، والحرمة لازمة للحرية حتى لا يباح لها مس المولى وغسله بسبب الحرية ، فكان الاستيلاد في الحال سببا لثبوت الحرية فكان سببا لحق الله تعالى في الحال فيقام السبب مقام الحقيقة في حق التحريم احتياطا وهو الجواب عن الطلاق الرجعي ، والطلاق المضاف إلى الحرية ثمة ثبت في الجملة أيضا عند وجود زوال الحل ، فيعتبر السبب قائما مقام المسبب في حق الحرمة احتياطا .
وأما الابتداء فوجه قولهما إن ; فيثبت المشهود به ظاهرا والقاضي مكلف بالقضاء بالظاهر فكان ينبغي أن لا تشترط الدعوى لقبول الشهادة أصلا ولهذا لم تشرط في عتق الأمة وطلاق المرأة وأسباب الحدود ، إلا أنا عرفنا اشتراطها فيما وراء العتق من حقوق العباد بالإجماع فيقتصر على مورد الإجماع . عدالة الشاهد دلالة صدقه في شهادته من حيث الظاهر