( وأما ) فعند بيان سبب صيرورة الماء مستعملا ، أبي حنيفة الماء إنما يصير مستعملا بأحد أمرين : إما بإزالة الحدث ، أو بإقامة القربة وعند وأبي يوسف لا يصير مستعملا إلا بإقامة القربة ، وعند محمد زفر لا يصير مستعملا إلا بإزالة الحدث وهذا الاختلاف لم ينقل عنهم نصا لكن مسائلهم تدل عليه ، والصحيح قول والشافعي أبي حنيفة ; لما ذكرنا من زوال المانع من الصلاة إلى الماء واستخباث الطبيعة إياه في الفصلين جميعا إذا عرفنا هذا ، فنقول : إذا توضأ بنية إقامة القربة نحو الصلاة المعهودة وصلاة الجنازة ودخول المسجد ومس المصحف وقراءة القرآن ونحوها ، فإن كان محدثا صار الماء مستعملا بلا خلاف ; لوجود السببين وهو إزالة الحدث واقامة القربة جميعا ، وإن لم يكن محدثا يصير مستعملا عند وأبي يوسف أصحابنا الثلاثة ; لوجود إقامة القربة لكون الوضوء على الوضوء نورا على نور ، وعند زفر لا يصير مستعملا ; لانعدام إزالة الحدث . والشافعي
ولو توضأ أو اغتسل للتبرد فإن كان محدثا صار الماء مستعملا عند أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر ; لوجود إزالة الحدث وعن والشافعي لا يصير مستعملا لعدم إقامة القربة ، وإن لم يكن محدثا لا يصير مستعملا بالاتفاق على اختلاف الأصول ، ولو محمد لا يصير مستعملا بالإجماع ; لأن التوضؤ به غير جائز ، فلم يوجد إزالة الحدث ولا إقامة القربة ، وكذا إذا غسل الأشياء الطاهرة من النبات والثمار والأواني والأحجار ونحوها ، أو غسل يده من الطين والوسخ ، وغسلت المرأة يدها من العجين أو الحناء ونحو ذلك ، لا يصير مستعملا ; لما قلنا ، ولو غسل يده للطعام أو من الطعام لقصد إقامة السنة صار الماء مستعملا ; لأن إقامة السنة قربة لقول النبي صلى الله عليه وسلم { توضأ بالماء المقيد كماء الورد ونحوه } ولو توضأ ثلاثا ثلاثا ، ثم زاد على ذلك فإن أراد بالزيادة ابتداء الوضوء صار الماء مستعملا ; لما قلنا ، وإن أراد الزيادة على الوضوء الأول اختلف المشايخ فيه فقال بعضهم : لا يصير مستعملا ; لأن الزيادة على الثلاث من باب التعدي بالنص وقال بعضهم : يصير مستعملا ; لأن الزيادة في معنى الوضوء على الوضوء فكانت قربة . الوضوء قبل الطعام بركة ، وبعده ينفي اللمم
ولو ، فقياس أصل أدخل جنب أو حائض أو محدث يده في الإناء قبل أن يغسلها وليس عليها قذر ، أو شرب الماء منه أبي حنيفة أن يفسد ، وفي الاستحسان لا يفسد وجه القياس : أن الحدث زال عن يده بإدخالها في الماء وكذا عن شفته فصار مستعملا ، وجه الاستحسان : ما روي عن وأبي يوسف رضي الله عنها أنها قالت : { عائشة } وربما كانت تتنازع فيه الأيدي وروينا أيضا عن كنت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نغتسل من إناء واحد رضي الله عنها { عائشة } ; ولأن التحرز عن إصابة الحدث والجنابة والحيض غير ممكن ، وبالناس حاجة إلى الوضوء والاغتسال والشرب ، وكل واحد لا يملك الإناء ليغترف الماء من الإناء العظيم ، ولا كل أحد يملك أن يتخذ آنية على حدة للشرب فيحتاج إلى الاغتراف باليد والشرب من كل آنية ، فلو لم يسقط اعتبار نجاسة اليد والشفة ; لوقع الناس في الحرج ، حتى لو أدخل رجله فيه يفسد الماء ; لانعدام الحاجة إليه في الإناء ; ولو أدخلها في البئر لم يفسده ; كذا ذكر أنها كانت تشرب من إناء وهي حائض ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب من ذلك الإناء ، وكان يتتبع مواضع فمها حبا لها في الأمالي ; لأنه يحتاج إلى ذلك في البئر لطلب الدلو فجعل عفوا ، ولو أدخل في الإناء أو البئر بعض جسده سوى اليد والرجل أفسده ; لأنه لا حاجة إليه . أبو يوسف
وعلى هذا الأصل تخرج مسألة والجملة فيه أن الرجل المنغمس لا يخلو : إما أن يكون طاهرا ، أو لم يكن بأن كان على بدنه نجاسة حقيقية أو حكمية كالجنابة والحدث ، وكل وجه على وجهين إما أن ينغمس لطلب الدلو ، أو للتبرد ، أو للاغتسال ، وفي المسألة حكمان : حكم الماء الذي في البئر ، وحكم الداخل فيها ، فإن كان طاهرا - وانغمس لطلب الدلو أو للتبرد - لا يصير مستعملا بالإجماع ; لعدم إزالة الحدث وإقامة القربة ، وإن انغمس فيها للاغتسال صار الماء مستعملا عند البئر إذا انغمس الجنب فيها لطلب الدلو لا بنية الاغتسال ، وليس على [ ص: 70 ] بدنه نجاسة حقيقية أصحابنا الثلاثة ; لوجود إقامة القربة ، وعند زفر لا يصير مستعملا ; لانعدام إزالة الحدث ، والرجل طاهر في الوجهين جميعا وإن لم يكن طاهرا ، فإن كان على بدنه نجاسة حقيقية وهو جنب أو لا فانغمس في ثلاثة آبار أو أكثر من ذلك ; لا يخرج من الأولى والثانية طاهرا بالإجماع ، ويخرج من الثالثة طاهرا عند والشافعي أبي حنيفة ، والمياه الثلاثة نجسة لكن نجاستها على التفاوت على ما ذكرنا . ومحمد
وعند المياه كلها نجسة ، والرجل نجس سواء انغمس لطلب الدلو أو التبرد أو الاغتسال ، وعندهما إن انغمس لطلب الدلو أو التبرد فالمياه باقية على حالها ، وإن كان الانغماس للاغتسال فالماء الرابع فصاعدا مستعمل ; لوجود إقامة القربة ، وإن كان على يده نجاسة حكمية فقط فإن أدخلها لطلب الدلو أو التبرد يخرج من الأولى طاهرا ، عند أبي يوسف أبي حنيفة هو الصحيح ; لزوال الجنابة بالانغماس مرة واحدة ، وعند ومحمد هو نجس ولا يخرج طاهرا أبدا . أبي يوسف
وأما حكم المياه : فالماء الأول مستعمل عند ; لوجود إزالة الحدث ، والبواقي على حالها ; لانعدام ما يوجب الاستعمال أصلا وعند أبي حنيفة أبي يوسف المياه كلها على حالها ، أما عند ومحمد فظاهر ; لأنه لم يوجد إقامة القربة بشيء منها وأما محمد فقد ترك أصله عند الضرورة على ما يذكر ، وروى أبو يوسف بشر عنه أن المياه كلها نجسة ، وهو قياس مذهبه ، والحاصل أن عند أبي حنيفة يطهر النجس بوروده على الماء القليل ، كما يطهر بورود الماء عليه بالصب سواء كان حقيقيا أو حكميا على البدن أو على غيره ، غير أن النجاسة الحقيقية لا تزول إلا بالملاقاة ثلاث مرات والحكمية تزول بالمرة الواحدة . ومحمد
وعند لا يطهر النجس عن البدن بوروده على الماء القليل الراكد قولا واحدا ، وله في الثوب قولان ، أما الكلام في النجاسة الحقيقية في الطرفين فسيأتي في بيان ما يقع به التطهير ، وأما النجاسة الحكمية فالكلام فيها على نحو الكلام في الحقيقة ، أبي يوسف يقول : الأصل أن ملاقاة أول عضو المحدث الماء يوجب صيرورته مستعملا ، فكذا ملاقاة أول عضو الطاهر الماء على قصد إقامة القربة ، وإذا صار الماء مستعملا بأول الملاقاة لا تتحقق طهارة بقية الأعضاء بالماء المستعمل فيجب العمل بهذا الأصل ، إلا عند الضرورة كالجنب والمحدث إذا أدخل يده في الإناء لاغتراف الماء لا يصير مستعملا ، ولا يزول الحدث إلى الماء لمكان الضرورة ، وههنا ضرورة ; لحاجة الناس إلى إخراج الدلاء من الآبار فترك أصله لهذه الضرورة ; ولأن هذا الماء لو صار مستعملا إنما يصير مستعملا بإزالة الحدث ، ولو أزال الحدث لتنجس ، ولو تنجس لا يزيل الحدث ، وإذا لم يزل الحدث بقي طاهرا ، وإذا بقي طاهرا يزيل الحدث فيقع الدور فقطعنا الدور من الابتداء فقلنا : إنه لا يزيل الحدث عنه ، فبقي هو بحاله ، والماء على حاله فأبو يوسف وأبو حنيفة يقولان : إن النجاسة تزول بورود الماء عليها ، فكذا بورودها على الماء ; لأن زوال النجاسة بواسطة الاتصال والملاقاة بين الطاهر والنجس موجودة في الحالين ، ولهذا ينجس الماء بعد الانفصال في الحالين جميعا في النجاسة الحقيقية ، إلا أن حالة الاتصال لا يعطى لها حكم النجاسة ، والاستعمال لضرورة إمكان التطهير ، والضرورة متحققة في الصب ، إذ كل واحد لا يقدر عليه على كل حال فامتنع ظهور حكمه في هذه الحالة ، ولا ضرورة بعد الانفصال فيظهر حكمه ، وعلى هذا ومحمد ، قال إذا أدخل رأسه أو خفه أو جبيرته في الإناء وهو محدث : يجزئه في المسح ولا يصير الماء مستعملا سواء نوى أو لم ينو ; لوجود أحد سببي الاستعمال وإنما كان ; لأن فرض المسح يتأدى بإصابة البلة إذ هو اسم للإصابة دون الإسالة ، فلم يزل شيء من الحدث إلى الماء الباقي في الإناء ، وإنما زال إلى البلة ، وكذا إقامة القربة تحصل بها فاقتصر حكم الاستعمال عليها . أبو يوسف
وقال : إن لم ينو المسح يجزئه ولا يصير الماء مستعملا ; لأنه لم توجد إقامة القربة فقد مسح بماء غير مستعمل فاجزأه ، وإن نوى المسح اختلف المشايخ على قوله قال بعضهم : [ ص: 71 ] لا يجزئه ويصير الماء مستعملا ; لأنه لما لاقى رأسه الماء على قصد إقامة القربة صيره مستعملا ، ولا يجوز المسح بالماء المستعمل ، والصحيح أنه يجوز ولا يصير الماء مستعملا بالملاقاة ; لأن الماء إنما يأخذ حكم الاستعمال بعد الانفصال فلم يكن مستعملا قبله فيجزئه المسح به جنب على يده قذر فأخذ الماء بفمه وصبه عليه ، روى محمد المعلى عن أنه لا يطهر ; لأنه صار مستعملا بإزالة الحدث عن الفم ، والماء المستعمل لا يزيل النجاسة بالإجماع ، وذكر أبي يوسف في الآثار أنه يطهر ; لأنه لم يقم به قربة فلم يصر مستعملا والله أعلم . محمد