وأما الثاني وهو بيان ما يغيره من صفة الأمانة إلى الضمان فالمغير له أشياء منها : ترك الحفظ ; لأن الأجير لما قبض المستأجر فيه فقد التزم حفظه ، وترك الحفظ الملتزم سبب لوجوب الضمان ، كالمودع إذا ترك حفظ الوديعة حتى ضاعت على ما نذكره في كتاب الوديعة إن شاء الله تعالى .
ومنها بأن تعمد ذلك أو عنف في الدق ، سواء كان مشتركا أو خاصا ، وإن لم يكن متعديا في الإفساد بأن أفسد الثوب خطأ بعمله من غير قصده فإن كان الأجير خاصا لم يضمن بالإجماع ، وإن كان مشتركا كالقصار إذا دق الثوب فتخرق ، أو ألقاه في النورة فاحترق ، أو الملاح غرقت السفينة من عمله ، ونحو ذلك فإنه يضمن في قول الإتلاف والإفساد إذا كان الأجير متعديا فيه أصحابنا الثلاثة ، وقال : لا يضمن ، وهو أحد قولي زفر ، وجه قول الشافعي إن الفساد حصل بعمل مأذون فيه فلا يجب الضمان كالأجير الخاص ، والمعين ، والدليل على أنه حصل بعمل مأذون فيه أنه حصل بالدق ، والدق مأذون فيه ، ولئن لم يكن مأذونا فيه لكن لا يمكنه التحرز عن هذا النوع من الفساد ; لأنه ليس في وسعه الدق المصلح فأشبه الحجام والبزاغ ، ولئن كان ذلك في وسعه لكنه لا يمكنه تحصيله إلا بحرج ، والحرج منفي فكان ملحقا بما ليس في الوسع ، ولنا أن المأذون فيه الدق المصلح لا المفسد ; لأن العاقل لا يرضى بإفساد ماله ، ولا يلتزم الأجرة بمقابلة ذلك فيتقيد الأمر بالمصلح دلالة ، وقوله : لا يمكنه " التحرز عن الفساد " ممنوع ، بل في وسعه ذلك بالاجتهاد في ذلك ، وهو بذل المجهود في النظر في آلة الدق ومحله ، وإرسال المدقة على المحل على قدر ما يحتمله مع الحذاقة في العمل ، والمهارة في الصنعة ، وعند مراعاة هذه الشرائط لا يحصل الفساد ، فلما حصل دل أنه قصر كما نقول في الاجتهاد في أمور الدين ، إلا أن الخطأ في حقوق العباد ليس بعذر حتى يؤاخذ الخاطئ والناسي بالضمان ، وقوله : " لا يمكنه التحرز عن الفساد إلا بحرج " مسلم لكن الحرج إنما يؤثر في حقوق الله - عز وجل - بالإسقاط لا في حقوق العباد ، وبهذا فارق الحجام والبزاغ ; لأن السلامة والسراية هناك مبنية على قوة الطبيعة ، وضعفها ، ولا يوقف على ذلك بالاجتهاد ، فلم يكن في وسعه الاحتراز عن السراية ، فلا يتقيد العقد بشرط السلامة . زفر
وأما الأجير الخاص فهناك وإن وقع عمله إفسادا حقيقة إلا أن عمله يلتحق بالعدم شرعا ; لأنه لا يستحق الأجرة بعمله بل بتسليم نفسه إليه في المدة ، فكأنه لم يعمل ، وعلى هذا الخلاف ، ولو زحمه الناس حتى فسد لم يضمن بالإجماع ; لأنه لا يمكنه حفظ نفسه عن ذلك فكان بمعنى الحرق الغالب ، والغرق الغالب ، ولو كان الحمال هو الذي زاحم الناس [ ص: 212 ] حتى انكسر يضمن عند الحمال إذا زلقت رجله في الطريق أو عثر فسقط وفسد حمله أصحابنا الثلاثة ، وكذلك الراعي المشترك إذا ساق الدواب على السرعة فازدحمن على القنطرة أو على الشط فدفع بعضها بعضا فسقط في الماء فعطب فعلى هذا الخلاف ، ولو تلفت دابة بسوقه أو ضربه إياها فإن ساق سوقا معتادا أو ضرب ضربا معتادا فعطبت فهو على الاختلاف ، وإن ساق أو ضرب سوقا ، وضربا بخلاف العادة يضمن بلا خلاف ; لأن ذلك إتلاف على طريق التعدي ، ثم إذا تخرق الثوب من عمل الأجير حتى ضمن لا يستحق الأجرة ; لأنه ما أوفى المنفعة بل المضرة ; لأن إيفاء المنفعة بالعمل المصلح دون المفسد ، وفي الحمال إذا وجب ضمان المتاع المحمول فصاحبه بالخيار : إن شاء ضمنه قيمته في الموضع الذي سلمه إليه ، وإن شاء في الموضع الذي فسد أو هلك ، وأعطاه الأجر إلى ذلك الموضع .
وروي عن أنه لا خيار له بل يضمنه قيمته محمولا في الموضع الذي فسد أو هلك ، أما التخيير على أصل أبي حنيفة أبي يوسف فظاهر ; لأنه وجد جهتا الضمان : القبض والإتلاف ، فكان له أن يضمنه بالقبض يوم القبض ، وله أن يضمنه بالإتلاف يوم الإتلاف ، أما على أصل ومحمد ففيه إشكال ; لأن عنده الضمان يجب بالإتلاف لا بالقبض فكان لوجوب الضمان سبب واحد ، وهو الإتلاف ، فيجب أن تعتبر قيمة يوم الإتلاف ، ولا خيار له فيما يروى عنه ، والجواب عنه من وجهين : أحدهما : أنه وجد ههنا سببان لوجوب الضمان : أحدهما : الإتلاف ، والثاني : العقد ; لأن الأجير بالعقد السابق التزم الوفاء بالمعقود عليه وذلك بالعمل المصلح وقد خالف ، والخلاف من أسباب وجوب الضمان فثبت له الخيار : إن شاء ضمنه بالعقد ، وإن شاء بالإتلاف والثاني أنه لما لم يوجد منه إيفاء المنفعة في القدر التالف فقد تفرقت عليه الصفقة في المنافع فيثبت له الخيار : إن شاء رضي بتفريقها ، وإن شاء فسخ العقد ، ولا يكون ذلك إلا بالتخيير ، ولو كان المستأجر على حمله عبيدا صغارا أو كبارا فلا ضمان على المكاري فيما عطب من سوقه ، ولا قوده ، ولا يضمن بنو آدم من وجه الإجارة ، ولا يشبه هذا المتاع ; لأن ضمان بني آدم ضمان جناية ، وضمان الجناية لا يجب بالعقد ، دلت هذه المسألة على أن ما يضمنه الأجير المشترك يضمنه بالعقد لا بالإفساد ، والإتلاف ; لأن ذلك يستوي فيه المتاع والآدمي ، وأن وجوب الضمان فيه بالخلاف لا بالإتلاف ، وذكر أبي حنيفة بشر في نوادره عن في القصار إذا استعان بصاحب الثوب ليدق معه فتخرق ، ولا يدرى من أي الدق تخرق وقد كان صحيحا قبل أن يدقاه ، قال : على القصار نصف القيمة ، وقال أبي يوسف عن ابن سماعة : إن الضمان كله على القصار حتى يعلم أنه تخرق من دق صاحبه أو من دقهما ، محمد مر على أصلهما أن الثوب دخل في ضمان القصار بالقبض بيقين فلا يخرج عن ضمانه إلا بيقين مثله ، وهو أن يعلم أن التخرق حصل بفعل غيره ، فمحمد أن الفساد احتمل أن يكون من فعل القصار ، واحتمل أنه من فعل صاحب الثوب ، فيجب الضمان على القصار في حال ، ولا يجب في حال فلزم اعتبار الأحوال فيه ، فيجب نصف القيمة ، ولأبي يوسف ; لأن وطء الثوب غير مأذون فيه ولو ، وقع من يده سراج فأحرق ثوبا من القصارة فالضمان على الأستاذ ، ولا ضمان على التلميذ ; لأن الذهاب ، والمجيء بالسراج عمل مأذون فيه فينتقل عمله إلى الأستاذ كأنه فعله بنفسه ، فيجب الضمان عليه ، ولو دق الغلام فانقلب الكودين من غير يده فخرق ثوبا من القصارة فالضمان على الأستاذ ; لأن هذا من عمل القصارة فكان مضافا إلى الأستاذ ، فإن كان ثوبا وديعة عند الأستاذ فالضمان على الغلام ; لأن عمله إنما يضاف إلى الأستاذ فيما يملك تسليطه عليه واستعماله فيه ، وهو إنما يملك ذلك في ثياب القصارة لا في ثوب الوديعة ، فبقي مضافا إليه ، فيجب عليه الضمان كالأجنبي ، وكذلك لو وقع من يده سراج على ثوب الوديعة فأحرقه فالضمان على الغلام لما قلنا ، وذكر في الأصل لو أن رجلا دعا قوما إلى منزله فمشوا على بساطه فتخرق لم يضمنوا ، وكذلك لو جلسوا على وسادة ; لأنه مأذون في المشي على البساط والجلوس على الوسادة ، فالمتولد منه لا يكون مضمونا ، ولو وطئوا آنية من الأواني ضمنوا ; لأن هذا مما لا يؤذن في وطئه ، فكذلك إذا وطئوا ثوبا لا يبسط مثله ، ولو قلبوا إناء بأيديهم فانكسر لم يضمنوا ; لأن ذلك عمل مأذون فيه ، ولو كان رجل منهم مقلدا سيفا فخرق السيف الوسادة لم يضمن ; لأنه مأذون في الجلوس على هذه الصفة ، ولو جفف القصار ثوبا على حبل في الطريق فمرت عليه حمولة فخرقته فلا ضمان [ ص: 213 ] على القصار ، والضمان على سائق الحمولة ; لأن الجناية من السائق ; لأن المشي في الطريق مقيد بالسلامة ، فكان التلف مضافا إليه ، فكان الضمان عليه . وقالوا في تلميذ الأجير المشترك إذا ، وطئ ثوبا من القصارة فخرقه يضمن