( وأما ) فإنها لا تزول إلا بالغسل ، سواء كانت رطبة أو يابسة ، وسواء كانت سائلة أو لها جرم سائر النجاسات إذا أصابت الثوب أو البدن ونحوهما ، فألقى عليها الملح ، ومضى عليه من المدة مقدار ما يتخلل فيها ، لم يحكم بطهارته ، حتى يغسله . ولو أصاب ثوبه خمر
ولو أصابه عصير ، فمضى عليه من المدة مقدار ما يتخمر العصير فيها ، لا يحكم بنجاسته ، وإن أصاب الخف أو النعل ونحوهما ، فإن كانت رطبة لا تزول إلا بالغسل كيفما كانت .
وروي عن أنه يطهر بالمسح على التراب كيفما كانت مستجسدة أو مائعة ، وإن كانت يابسة فإن لم يكن لها جرم كثيف كالبول والخمر والماء النجس لا يطهر إلا بالغسل ، وإن كان لها جرم كثيف فإن كان منيا فإنه يطهر بالحت بالإجماع ، وإن كان غيره كالعذرة والدم الغليظ والروث يطهر بالحت عند أبي يوسف أبي حنيفة ، وعند وأبي يوسف لا يطهر إلا بالغسل ، وهو أحد قولي محمد ، وما قالاه استحسان ، وما قاله قياس وجه القياس أن غير الماء لا أثر له في الإزالة ، وكذا القياس في الماء ; لما بينا فيما تقدم ، إلا أنه يجعل طهورا للضرورة ، والضرورة ترتفع بالماء ، فلا ضرورة في غيره ، ولهذا لم يؤثر في إزالة الرطب واليابس والسائل وفي الثوب ، وهذا هو القياس في المني ، إلا أنا عرفناه بالنص . الشافعي
وجه الاستحسان ما روي عن رضي الله عنه أن { أبي سعيد الخدري جبريل وأخبرني أن بهما أذى ، ثم قال : إذا أتى أحدكم المسجد فليقلب نعليه ، فإن كان بهما أذى فليمسحهما بالأرض ، فإن الأرض لهما طهور } ، وهذا نص والفقه من وجهين : أحدهما : أن المحل إذا كان فيه صلابة نحو الخف والنعل ، لا تتخلل أجزاء النجاسة فيه لصلابته ، وإنما تتشرب منه بعض الرطوبات ، فإذا أخذ المستجسد في الجفاف جذبت تلك الرطوبات إلى نفسه شيئا فشيئا ، فكلما ازداد يبسا ازداد جذبا ، إلى أن يتم الجفاف ، فعند ذلك لا يبقى منها شيء ، أو يبقى شيء يسير ، النبي صلى الله عليه وسلم لما خلع نعليه في الصلاة ، خلع الناس نعالهم ، فلما فرغ من الصلاة قال : ما بالكم خلعتم نعالكم ؟ فقالوا : خلعت نعليك فخلعنا نعالنا فقال : أتاني تزول العين بالكلية ، بخلاف حالة الرطوبة ; لأن العين وإن زالت فالرطوبات باقية ، لأنه خروجها بالجذب بسبب اليبس ، ولم يوجد وبخلاف السائل ; لأنه لم يوجد الجاذب - وهو العين المستجسدة - فبقيت الرطوبة المتشربة فيه ، فلا يطهر بدون الغسل ، وبخلاف [ ص: 85 ] الثوب فإن أجزاء النجاسة تتخلل في الثوب كما تتخلل رطوباتها لتخلخل أجزاء الثوب ، فبالجفاف انجذبت الرطوبات إلى نفسها ، فتبقى أجزاؤها فيه فلا تزول بإزالة الجرم الظاهر على سبيل الكمال ، وصار كالمني إذا أصاب الثوب أنه يطهر بالفرك عند الجفاف ; لأن المني شيء لزج لا يداخل أجزاء الثوب . فإذا جف الخف ، أو مسحه على الأرض
وإنما تتخلل رطوباته فقط ، ثم يجذبها المستجسد عند الجفاف فيطهر فكذلك هذا ، والثاني - أن إصابة هذه الأنجاس الخفاف والنعال مما يكثر ، فيحكم بطهارتها بالمسح دفعا للحرج بخلاف الثوب ، والحرج في الأرواث لا غير ، وإنما سوى في رواية عن بين الكل لإطلاق ما روينا من الحديث ، وكذا معنى الحرج لا يفصل بين الرطب واليابس ، أبي يوسف يعود نجسا ، هو الصحيح من الرواية ; لأن شيئا من النجاسة قائم ; لأن المحل إذا تشرب فيه النجس ، وأنه لا يحتمل العصر ، لا يطهر عند ولو أصابه الماء بعد الحت والمسح أبدا ، وعند محمد ينقع في الماء ثلاث مرات ، ويجفف في كل مرة ، إلا أن معظم النجاسة قد زال ، فجعل القليل عفوا في حق جواز الصلاة للضرورة ، لا أن يطهر المحل حقيقة ، فإذا وصل إليه الماء فهذا ماء قليل جاوره قليل نجاسة فينجسه ، وأطلق أبي يوسف أنه إذا حت طهر ، وتأويله في حق جواز الصلاة ، ولو أصابت النجاسة شيئا صلبا صقيلا ، كالسيف والمرآة ونحوهما يطهر بالحت ، رطبة كانت أو يابسة ; لأنه لا يتخلل في أجزائه شيء من النجاسة ، وظاهره يطهر بالمسح والحث وقيل : إن كانت رطبة لا تزول إلا بالغسل ، الكرخي تجوز الصلاة عليها عندنا ، وعند ولو أصابت النجاسة الأرض فجفت وذهب أثرها لا تجوز ، وبه أخذ زفر ، ولو تيمم بهذا التراب لا يجوز في ظاهر الرواية ، وقد ذكرنا الفرق فيما تقدم . الشافعي
( ولنا ) طريقان : أحدهما - أن الأرض لم تطهر حقيقة لكن زال معظم النجاسة عنها ، وبقي شيء قليل فيجعل عفوا للضرورة ، فعلى هذا إذا أصابها الماء تعود نجسة لما بينا .
والثاني - أن الأرض طهرت حقيقة ; لأن من طبع الأرض أنها تحيل الأشياء ، وتغيرها إلى طبعها ، فصارت ترابا بمرور الزمان ، ولم يبق نجس أصلا ، فعلى هذا إن أصابها لا تعود نجسة ، وقيل : إن الطريق الأول ، والثاني لأبي يوسف ، بناء على أن النجاسة إذا تغيرت بمضي الزمان وتبدلت أوصافها ، تصير شيئا آخر عند لمحمد ، فيكون طاهرا ، وعند محمد لا يصير شيئا آخر فيكون نجسا ، وعلى هذا الأصل مسائل بينهما . أبي يوسف