( وأما ) بيان قدر القراءة فالكلام فيه يقع في ثلاثة مواضع : أحدها - في بيان القدر المفروض الذي يتعلق به أصل الجواز  والثاني - في بيان القدر الذي يخرج به عن حد الكراهة والثالث - في بيان القدر المستحب ( أما ) الكلام فيما يستحب من القراءة وفيما يكره فنذكره في موضعه ، وههنا نذكر القدر الذي يتعلق به أصل الجواز ، وعن  أبي حنيفة  فيه ثلاث روايات : في ظاهر الرواية قدر أدنى المفروض بالآية التامة ، طويلة كانت أو قصيرة ، كقوله تعالى : { مدهامتان    } . 
وقوله { ثم نظر    } ، وقوله { ثم عبس وبسر    } رواية الفرض غير مقدر بل هو على أدنى ما يتناوله الاسم ، سواء كانت آية أو ما دونها بعد أن قرأها على قصد القراءة . 
وفي رواية قدر الفرض بآية طويلة كآية الكرسي ، وآية الدين ، أو ثلاث آيات قصار ، وبه أخذ  أبو يوسف   ومحمد  ، وأصله قوله تعالى : { فاقرءوا ما تيسر من القرآن    } فهما يعتبران العرف ، ويقولان : مطلق الكلام ينصرف إلى المتعارف ، وأدنى ما يسمى المرء به قارئا في العرف أن يقرأ آية طويلة أو ثلاث آيات قصار  وأبو حنيفة  يحتج بالآية من وجهين : أحدهما - أنه أمر بمطلق القراءة ، وقراءة آية قصيرة قراءة والثاني - أنه أمر بقراءة ما تيسر من القرآن وعسى لا يتيسر إلا هذا القدر . 
وما قاله  أبو حنيفة  أقيس ; لأن القراءة مأخوذة من القرآن أي الجمع ، سمي بذلك لأنه يجمع السور فيضم بعضها إلى بعض ، ويقال قرأت الشيء قرآنا أي جمعته ، فكل شيء جمعته فقد قرأته . 
وقد حصل معنى الجمع بهذا القدر لاجتماع حروف الكلمة عند التكلم ، وكذا العرف ثابت ، فإن الآية التامة أدنى ما ينطلق عليه اسم القرآن في العرف . 
فأما ما دون الآية فقد يقرأ لا على سبيل القرآن فيقال : بسم الله ، أو الحمد لله ، أو سبحان الله ، فلذلك قدرنا بالآية التامة على أنه لا عبرة لتسميته قارئا في العرف ; لأن هذا أمر بينه وبين الله - تعالى - فلا يعتبر فيه عرف الناس وقد قرر  القدوري  الرواية الأخرى وهي أن المفروض غير مقدر . 
وقال : المفروض مطلق القراءة من غير تقدير ، ولهذا يحرم ما دون الآية على الجنب والحائض ، إلا أنه قد يقرأ لا على قصد القرآن وذا لا يمنع الجواز ، فإن الآية التامة قد تقرأ لا على قصد القرآن في الجملة ، ألا ترى أن التسمية قد تذكر لافتتاح الأعمال لا لقصد القرآن ، وهي آية تامة ؟ وكلامنا فيما إذا قرأ على قصد القرآن فيجب أن يتعلق به الجواز ولا يعتبر فيه العرف لما بينا ، ثم الجواز كما يثبت بالقراءة بالعربية يثبت بالقراءة بالفارسية عند  أبي حنيفة  سواء كان يحسن العربية أو لا يحسن ، وقال  أبو يوسف   ومحمد    : إن كان يحسن لا يجوز ، وإن كان لا يحسن يجوز ، وقال  الشافعي    : لا يجوز أحسن أو لم يحسن ، وإذا لم يحسن العربية يسبح ويهلل عنده ولا يقرأ بالفارسية  ، وأصله قوله قوله تعالى : { فاقرءوا ما تيسر من القرآن    } ، أمر بقراءة القرآن في الصلاة ، فهم قالوا : إن القرآن هو المنزل بلغة العرب ، قال الله تعالى : { إنا أنزلناه قرآنا عربيا    } ، فلا يكون الفارسي قرآنا فلا يخرج به عن عهدة الأمر ، ولأن القرآن معجز ، والإعجاز من حيث اللفظ يزول بزوال النظم العربي فلا يكون الفارسي قرآنا لانعدام الإعجاز ، ولهذا لم تحرم قراءته على الجنب والحائض ، إلا أنه إذا لم يحسن العربية فقد عجز عن مراعاة لفظه فيجب عليه مراعاة معناه ليكون التكليف بحسب الإمكان ، وعند  الشافعي  هذا ليس بقرآن فلا يؤمر بقراءته ،  وأبو حنيفة  يقول : إن الواجب في الصلاة قراءة القرآن من حيث هو لفظ دال على كلام الله - تعالى - الذي هو صفة قائمة به لما يتضمن من العبر والمواعظ والترغيب والترهيب والثناء والتعظيم ، لا من حيث هو لفظ عربي ، ومعنى الدلالة عليه لا يختلف بين لفظ ولفظ ، قال الله تعالى : { وإنه لفي زبر الأولين    } . 
وقال : { إن هذا لفي الصحف الأولى ، صحف إبراهيم وموسى    } ، ومعلوم أنه ما كان في كتبهم بهذا اللفظ بل بهذا المعنى . 
( وأما ) قولهم : إن القرآن هو المنزل بلغة العرب - ( فالجواب ) عنه من وجهين : أحدهما : أن كون العربية قرآنا لا ينفي  [ ص: 113 ] أن يكون غيرها قرآنا ، وليس في الآية نفيه ، وهذا لأن العربية سميت قرآنا لكونها دليلا على ما هو القرآن ، وهي الصفة التي هي حقيقة الكلام ، ولهذا قلنا : إن القرآن غير مخلوق على إرادة تلك الصفة دون العبارات العربية ، ومعنى الدلالة يوجد في الفارسية فجاز تسميتها قرآنا ، دل عليه قوله - تعالى - : { ولو جعلناه قرآنا أعجميا    } أخبر أنه لو عبر عنه بلسان العجم كان قرآنا والثاني : إن كان لا يسمى غير العربية قرآنا لكن قراءة العربية ما وجبت لأنها تسمى قرآنا بل لكونها دليلا على ما هو القرآن الذي هو صفة قائمة بالله ، بدليل أنه لو قرأ عربية لا يتأدى بها كلام الله تفسد صلاته ، فضلا من أن تكون قرآنا واجبا ، ومعنى الدلالة لا يختلف فلا يختلف الحكم المتعلق به ، والدليل على أن عندهما تفترض القراءة بالفارسية على غير القادر على العربية  ، وعذرهما غير مستقيم ; لأن الوجوب متعلق بالقرآن وإنه قرآن عندهما باعتبار اللفظ دون المعنى ، فإذا زال اللفظ لم يكن المعنى قرآنا فلا معنى للإيجاب ، ومع ذلك وجب ، فدل أن الصحيح ما ذهب إليه  أبو حنيفة    ; ولأن غير العربية إذا لم يكن قرآنا لم يكن من كلام الله - تعالى - فصار من كلام الناس وهو يفسد الصلاة ، والقول بتعلق الوجوب بما هو مفسد غير سديد . 
( وأما ) قولهم : إن الإعجاز من حيث اللفظ لا يحصل بالفارسية - فنعم لكن قراءة ما هو معجز النظم عنده ليس بشرط ; لأن التكليف ورد بمطلق القراءة لا بقراءة ما هو معجز ، ولهذا جوز قراءة آية قصيرة وإن لم تكن هي معجزة ما لم تبلغ ثلاث آيات ، وفصل الجنب والحائض ممنوع . 
ولو قرأ شيئا من التوراة أو الإنجيل أو الزبور في الصلاة  إن تيقن أنه غير محرف يجوز عند  أبي حنيفة  لما قلنا ، وإن لم يتيقن لا يجوز ; لأن الله - تعالى - أخبر عن تحريفهم بقوله : { يحرفون الكلم عن مواضعه    } ، فيحتمل أن المقروء محرف فيكون من كلام الناس ، فلا يحكم بالجواز بالشك والاحتمال ، وعلى هذا الخلاف إذا تشهد أو خطب يوم الجمعة بالفارسية    . 
ولو أمن بالفارسية  ، أو سمى عند الذبح بالفارسية  ، أو لبى عند الإحرام بالفارسية  ، أو بأي لسان كان يجوز بالإجماع ولو أذن بالفارسية  قيل : إنه على هذا الخلاف ، وقيل : لا يجوز بالاتفاق ; لأنه لا يقع به الإعلام ، حتى لو وقع به الإعلام يجوز والله أعلم . 
				
						
						
