; ( ومنها ) أن يكون مقبوضا في مجلس السلم لأن المسلم فيه دين ، والافتراق لا عن قبض رأس المال يكون افتراقا عن دين بدين وإنه منهي عنه لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { } أي النسيئة بالنسيئة ، ولأن مأخذ هذا العقد دليل على هذا الشرط فإنه يسمى سلما وسلفا لغة وشرعا ، تقول العرب : أسلمت وأسلفت بمعنى واحد ، وفي الحديث { نهى عن بيع الكالئ بالكالئ } وروي { من أسلم فليسلم في كيل معلوم } والسلم ينبئ عن التسليم ، والسلف ينبئ عن التقدم فيقتضي لزوم من سلف فليسلف في كيل معلوم ، فإن قيل : شرط الشيء يسبقه أو يقارنه ، والقبض يعقب العقد فكيف يكون شرطا ؟ فالجواب أن القبض شرط بقاء العقد على الصحة لا شرط الصحة فإن العقد ينعقد صحيحا بدون قبض ، ثم يفسد بالافتراق لا عن قبض وبقاء العقد صحيحا يعقب [ ص: 203 ] العقد ولا يتقدمه فيصلح القبض شرطا له ، وسواء كان رأس المال دينا أو عينا عند عامة العلماء استحسانا . تسليم رأس المال ويقدم قبضه على قبض المسلم فيه
والقياس أن لا يشترط قبضه في المجلس إذا كان عينا ، وهو قول رحمه الله . مالك
( وجه ) القياس أن اشتراط القبض للاحتراز عن الافتراق عن دين بدين ، وهذا افتراق عن عين بدين وإنه جائز .
( وجه ) الاستحسان أن رأس مال السلم يكون دينا عادة ولا تجعل العين رأس مال السلم إلا نادرا ، والنادر حكمه حكم الغائب فيلحق بالدين على ما هو الأصل في الشرع في إلحاق المفرد بالجملة ، ولأن مأخذ العقد في الدلالة على اعتبار هذا الشرط لا يوجب الفصل بين الدين والعين على ما ذكرنا ، وسواء قبض في أول المجلس أو في آخره فهو جائز ; لأن ساعات المجلس لها حكم ساعة واحدة ، وكذا لو . لم يقبض حتى قاما يمشيان فقبض قبل أن يفترقا بأبدانهما
جاز ; لأن ما قبل الافتراق بأبدانهما له حكم المجلس وعلى هذا يخرج الإبراء عن رأس مال السلم أنه لا يجوز بدون قبول رب السلم ; لأن قبض رأس المال شرط صحة السلم فلو جاز الإبراء من غير قبوله وفيه إسقاط هذا الشرط أصلا لكان الإبراء فسخا معنى ، وأحد العاقدين لا ينفرد بفسخ العقد فلا يصح الإبراء وبقي عقد السلم على حاله ، وإذا قبل جاز الإبراء ; لأن الفسخ حينئذ يكون بتراضيهما وإنه جائز .
وإذا جاز الإبراء وإنه في معنى الفسخ انفسخ العقد ضرورة بخلاف الإبراء عن المسلم فيه أنه جائز من غير قبول المسلم إليه ; لأنه ليس في الإبراء عنه إسقاط شرط ; لأن قبض المسلم فيه ليس بشرط فيصح من غير قبول وبخلاف أنه يصح من غير قبول المشتري ، إلا أنه يرتد بالرد ; لأن قبض الثمن ليس بشرط لصحة البيع إلا أنه يرتد بالرد ، لأن في الإبراء معنى التمليك على سبيل التبرع فلا يلزم دفعا لضرر المنة ، ولا يجوز الإبراء عن ثمن المبيع ; لأنه عين . الإبراء عن المبيع
والإبراء إسقاط ، وإسقاط الأعيان لا يعقل وعلى هذا يخرج أنه لا يجوز وهو أن يأخذ برأس مال السلم شيئا من غير جنسه ; لأن قبض رأس المال لما كان شرطا فبالاستبدال يفوت قبضه حقيقة ، وإنما يقبض بدله وبدل الشيء غيره ، وكذلك الاستبدال برأس مال السلم في مجلس العقد لما قلنا ، فإن أعطي رب السلم من جنس رأس المال أجود أو أردأ ، ورضي المسلم إليه بالأردإ : جاز ، لأنه قبض جنس حقه ، وإنما اختلف الوصف ، فإن كان أجود فقد قضى حقه وأحسن في القضاء ، وإن كان أردأ فقد قضى حقه أيضا ، لكن على وجه النقصان فلا يكون أخذ الأجود ، والأردإ استبدالا ، إلا أنه لا يجبر على أخذ الأردإ ; لأن فيه فوات حقه عن صفة الجودة فلا بد من رضاه ، وهل يجبر على الأخذ إذا أعطاه أجود من حقه ؟ قال علماؤنا الثلاثة رحمهم الله : يجبر عليه ، وقال الاستبدال ببدل الصرف لا : يجبر . زفر
( وجه ) قوله : إن رب السلم في إعطاء الزيادة على حقه متبرع ، والمتبرع عليه لا يجبر على قبول التبرع لما فيه من إلزام المنة فلا يلزمه من غير التزامه .
( ولنا ) أن إعطاء الأجود مكان الجيد في قضاء الديون لا يعد فضلا وزيادة في العادات ، بل يعد من باب الإحسان في القضاء ولواحق الإيفاء فإذا أعطاه الأجود فقد قضى حق صاحب الحق وأجمل في القضاء فيجبر على الأخذ .