ويجوز استحسانا ، وهو قول اقتداء القائم الذي يركع ويسجد بالقاعد الذي يركع ويسجد أبي حنيفة ، والقياس أن لا يجوز وهو قول وأبي يوسف ، وعلى هذا الاختلاف اقتداء القائم المومئ بالقاعد المومئ . محمد
( وجه ) القياس ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { } أي لقائم ، لإجماعنا على أنه لو أم لجالس جاز ، ولأن المقتدي أعلى حالا من الإمام فلا يجوز اقتداؤه به كاقتداء الراكع الساجد بالمومئ ، واقتداء القارئ بالأمي . لا يؤمن أحد بعدي جالسا
( وفقهه ) ما بينا أن المقتدي يبني تحريمته على تحريمة الإمام ، وتحريمة الإمام ما انعقدت للقيام بل انعقدت للقعود فلا يمكن بناء القيام عليها ، كما لا يمكن بناء القراءة على تحريمة الأمي ، وبناء الركوع والسجود على تحريمة المومئ .
( وجه ) الاستحسان ما روي أن { أبا بكر فليصل بالناس ، فقالت عائشة لحفصة رضي الله عنهما : قولي له إن أبا بكر رجل أسيف إذا وقف في مكانك لا يملك نفسه فلو أمرت غيره فقالت حفصة ذلك فقال صلى الله عليه وسلم : أنتن صويحبات يوسف ، مروا أبا بكر يصلي بالناس فلما افتتح أبو بكر رضي الله عنه الصلاة وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه خفة فخرج وهو يهادى بين علي ، ورجلاه يخطان الأرض حتى دخل المسجد ، فلما سمع والعباس أبو بكر رضي الله عنه حسه تأخر ، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس يصلي ، وأبو بكر يصلي بصلاته ، والناس يصلون بصلاة أبي بكر ، يعني أن أبا بكر رضي الله عنه كان يسمع تكبير رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكبر ، والناس يكبرون بتكبير أبي بكر } ، فقد ثبت الجواز على وجه لا يتوهم ورود النسخ عليه ، ولو توهم ورود النسخ يثبت الجواز ما لم يثبت النسخ ، فإذا لم يتوهم ورود النسخ أولى ، ولأن القعود غير القيام ، وإذا أقيم شيء مقام غيره جعل بدلا عنه ، كالمسح على الخف مع غسل الرجلين ، وإنما قلنا : إنهما متغايران بدليل الحكم والحقيقة . آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوب واحد متوشحا به قاعدا وأصحابه خلفه قيام يقتدون به ، فإنه لما ضعف في مرضه قال : مروا
( أما ) الحقيقة فلأن القيام اسم لمعنيين متفقين في محلين مختلفين ، وهما الانتصابان في النصف الأعلى والنصف الأسفل ، فلو تبدل الانتصاب في النصف الأعلى بما يضاده وهو الانحناء سمي ركوعا لوجود الانحناء ; لأنه في اللغة عبارة عن الانحناء من غير اعتبار النصف الأسفل ; لأن ذلك وقع وفاقا ، فأما هو في اللغة فاسم لشيء واحد فحسب وهو الانحناء ، ولو تبدل الانتصاب في النصف الأسفل بما يضاده وهو انضمام الرجلين وإلصاق الألية بالأرض يسمى قعودا ، فكان القعود اسما لمعنيين مختلفين في محلين مختلفين ، وهما الانتصاب في النصف الأعلى والانضمام والاستقرار على الأرض في النصف الأسفل ، فكان القعود مضادا للقيام في أحد معنييه ، وكذا الركوع ، والركوع مع القعود يضاد كل واحد منهما للآخر بمعنى واحد وهو صفة النصف الأعلى ، واسم المعنيين يفوت بالكلية بوجود مضاد أحد معنييه كالبلوغ واليتم ، فيفوت القيام بوجود القعود أو الركوع بالكلية ، ولهذا لو قال قائل : ما قمت بل قعدت ، وما أدركت القيام بل أدركت الركوع - لم يعد مناقضا في كلامه .
وأما الحكم فلأن ما صار القيام لأجله طاعة يفوت عند الجلوس بالكلية ; لأن القيام إنما صار طاعة لانتصاب نصفه الأعلى ، بل لانتصاب رجليه ، لما يلحق رجليه من المشقة ، وهو بالكلية يفوت عند الجلوس ، فثبت حقيقة [ ص: 143 ] وحكما أن القيام يفوت عند الجلوس فصار الجلوس بدلا عنه ، والبدل عند العجز عن الأصل أو تعذر تحصيله يقوم مقام الأصل ، ولهذا جوزنا اقتداء الغاسل بالماسح لقيام المسح مقام الغسل في حق تطهير الرجلين عند تعذر الغسل لكونه بدلا عنه ، فكان القعود من الإمام بمنزلة القيام ولو كان قادرا عليه ، فجعلت تحريمة الإمام في حق الإمام منعقدة للقيام لانعقادها لما هو بدل القيام ، فصح بناء قيام المقتدي على تلك التحريمة ، بخلاف اقتداء القارئ بالأمي ; لأن هناك لم يوجد ما هو بدل القراءة بل سقطت أصلا ، فلم تنعقد تحريمة الإمام للقراءة ، فلا يجوز بناء القراءة عليه أما ههنا لم يسقط القيام أصلا بل أقيم بدله مقامه ، ألا ترى أنه لو اضطجع وهو قادر على القعود لا يجوز ؟ ولو كان القيام يسقط أصلا من غير بدل - وذا ليس وقت وجوب القعود بنفسه - كان ينبغي أنه لو صلى مضطجعا يجوز ، وحيث لم يجز دل أنه إنما لا يجوز لسقوط القيام إلى بدله ، وجعل بدله كأنه عين القيام ، وبخلاف اقتداء الراكع الساجد بالمومئ ، لما مر أن الإيماء ليس عين الركوع والسجود ، بل هو تحصيل بعض الركوع والسجود ، إلا أنه ليس فيه كمال الركوع والسجود فلم تنعقد تحريمة الإمام للفائت ، وهو الكمال فلم يمكن بناء كمال الركوع والسجود على تلك التحريمة .
وقد خرج الجواب عما ذكر من المعنى ، وما روي من الحديث كان في الابتداء ، فإنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سقط عن فرس فجحش جنبه فلم يخرج أياما ، ودخل عليه أصحابه فوجدوه يصلي قاعدا فافتتحوا الصلاة خلفه قياما ، فلما رآهم على ذلك قال : " استنان بفارس والروم " ؟ وأمرهم بالقعود ، ثم نهاهم عن ذلك فقال : { } ، ألا ترى أنه تكلم في الصلاة فقال : استنان بفارس والروم ، وأمرهم بالقعود ؟ فدل أن ذلك كان في الابتداء حين كان التكلم في الصلاة مباحا ، وما روينا آخر صلاة صلاها ، فانتسخ قوله السابق بفعله المتأخر ، وعلى هذا يخرج اقتداء المفترض بالمتنفل أنه لا يجوز عندنا خلافا لا يؤمن أحد بعدي جالسا ، ويجوز اقتداء المتنفل بالمفترض عند عامة العلماء خلافا للشافعي ( احتج ) لمالك بما روى الشافعي عبد الله أن كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ثم يرجع فيصليها بقومه في معاذا بني سلمة ، كان متنفلا وكان يصلي خلفه المفترضون ، ولأن كل واحد منهم يصلي صلاة نفسه لا صلاة صاحبه لاستحالة أن يفعل العبد فعل غيره ، فيجوز فعل كل واحد منهما ، سواء وافق فعل إمامه أو خالفه ، ولهذا جاز ومعاذ اقتداء المتنفل بالمفترض
( ولنا ) ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس صلاة الخوف وجعل الناس طائفتين ، وصلى بكل طائفة شطر الصلاة لينال كل فريق فضيلة الصلاة خلفه ، ولو جاز لأتم الصلاة بالطائفة الأولى ثم نوى النفل وصلى بالطائفة الثانية ; لينال كل طائفة فضيلة الصلاة خلفه من غير الحاجة إلى المشي وأفعال كثيرة ليست من الصلاة ، ولأن تحريمة الإمام ما انعقدت لصلاة الفرض ، والفرضية وإن لم تكن صفة زائدة على ذات الفعل فليست راجعة إلى الذات أيضا ، بل هي من الأوصاف الإضافية على ما عرف في موضعه ، فلم يصح البناء من المقتدي ، بخلاف اقتداء المتنفل بالمفترض ; لأن النفلية ليست من باب الصفة بل هي عدم ، إذ النفل عبارة عن أصل لا وصف له فكانت تحريمة الإمام منعقدة لما يبني عليه المقتدي وزيادة فصح البناء وقد خرج الجواب عن معناه ، فإن كل واحد منهما يصلي صلاة نفسه ; لأنا نقول : نعم ، لكن إحداهما بناء على الأخرى ، وتعذر تحقيق معنى البناء ، وما روي من الحديث فليس فيه أن اقتداء المفترض بالمتنفل كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الفرض ، فيحتمل أنه كان ينوي النفل ثم يصلي بقومه الفرض ، ولهذا قال له صلى الله عليه وسلم لما بلغه طول قراءته : { معاذا } ، على أنه يحتمل أنه كان في الابتداء حين كان تكرار الفرض مشروعا ، وينبني على هذا الخلاف . إما أن تخفف بهم ، وإلا فاجعل صلاتك معنا
أنه لا يجوز عندنا ; لأن الفعل من الصبي لا يقع فرضا فكان اقتداء المفترض بالمتنفل ، وعند اقتداء البالغين بالصبيان في الفرائض يصح . الشافعي
( واحتج ) بما روي أن عمر بن سلمة كان يصلي بالناس وهو ابن تسع سنين ، ولا يحمل على صلاة التراويح ; لأنها لم تكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بجماعة ، فدل أنه كان في الفرائض ، والجواب أن ذلك كان في ابتداء الإسلام حين لم تكن صلاة المقتدي متعلقة بصلاة الإمام على ما ذكرنا ، ثم نسخ .
وأما في التطوعات فقد روي عن محمد بن مقاتل الرازي أنه أجاز ذلك في التراويح ، والأصح أن [ ص: 144 ] ذلك لا يجوز عندنا ، لا في الفريضة ولا في التطوع ; لأن تحريمة الصبي انعقدت لنفل غير مضمون عليه بالإفساد ، فلا يصح البناء ، وينبغي ونفل المقتدي البالغ مضمون عليه بالإفساد إذا عقلهما ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : { للرجل أن يؤدب ولده على الطهارة والصلاة } ، ولا يفترض عليه إلا بعد البلوغ ، ونذكر حد البلوغ في موضع آخر إن شاء الله تعالى . مروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبعا ، واضربوهم عليها إذا بلغوا عشرا