( فصل ) :
وأما بيان نقول - وبالله التوفيق - : إن المتروك الذي يتعلق به سجود السهو من الفرائض والواجبات لا يخلو إما أن كان من الأفعال أو من الأذكار ، ومن أي القسمين كان وجب أن يقضي إن أمكن التدارك بالقضاء وإن لم يمكن فإن كان المتروك فرضا تفسد الصلاة ، وإن كان واجبا لا تفسد ، ولكن تنتقص وتدخل في حد الكراهة ، وبيان هذه الجملة : أما الأفعال فإذا ترك سجدة صلبية من ركعة ثم تذكرها آخر الصلاة - قضاها وتمت صلاته عندنا ، وقال المتروك ساهيا هل يقضى أم لا ؟ : يقضيها ويقضي ما بعدها ، ( وجه ) قوله أن ما صلى بعد المتروك حصل قبل [ ص: 168 ] أوانه فلا يعتد به ; لأن هذه عبادة شرعت مرتبة فلا تعتبر بدون الترتيب ، كما لو قدم السجود على الركوع أنه لا يعتد بالسجود لما قلنا كذا هذا . الشافعي
( ولنا ) أن الركعة الثانية صادفت محلها ; لأن محلها بعد الركعة الأولى ، وقد وجدت الركعة الأولى ; لأن الركعة تتقيد بسجدة واحدة ، وإنما الثانية تكرار ، ألا ترى أنه ينطلق عليها اسم الصلاة ؟ حتى لو حلف لا يصلي فقيد الركعة بالسجدة يحنث ، فكان أداء الركعة الثانية معتبرا معتدا به ، فلا يلزمه إلا قضاء المتروك ، بخلاف ما إذا قدم السجود على الركوع ; لأن السجود ما صادف محله ; لأن محله بعد الركوع لتقييد الركعة ، والركعة بدون الركوع لا تتحقق فلم يقع معتدا به فهو الفرق .
وعلى هذا الخلاف إذا قضاهما وتمت صلاته عندنا ، ويبدأ بالأولى منهما ثم بالثانية ; لأن القضاء على حسب الأداء ، ثم الثانية مرتبة على الأولى في الأداء فكذا في القضاء . تذكر سجدتين من ركعتين في آخر الصلاة -
ولو كانت إحداهما سجدة تلاوة تركها من الركعة الأولى ، والأخرى صلبية تركها من الثانية - يراعي الترتيب أيضا فيبدأ بالتلاوة عند عامة العلماء ، وقال : يبدأ بالثانية ; لأنها أقوى . زفر
( ولنا ) أن القضاء معتبر بالأداء ، وقد تقدم وجوب التلاوة أداء فيجب تقديمها في القضاء ، ولو لخر لها من ركوعه ورفع رأسه من سجوده فسجدها ، والأفضل أن يعود إلى حرمة هذه الأركان فيعيدها ليكون على الهيئة المسنونة وهي الترتيب ، وإن لم يعد أجزأه عند تذكر سجدة صلبية وهو راكع أو ساجد أصحابنا الثلاثة .
وعند لا يجزئه ; لأن الترتيب في أفعال الصلاة فرض عنده فالتحقت هذه السجدة بمحلها فبطل ما أدى من القيام والقراءة والركوع لترك الترتيب ، وعندنا زفر ليس بفرض ، ولهذا يبدأ المسبوق بما أدرك الإمام فيه دون ما سبقه ، ولئن كان فرضا فقد سقط بعذر النسيان ، فوقع الركوع والسجود معتبرا لمصادفته محله ، وعن الترتيب في أفعال صلاة واحدة - رحمه الله - أن عليه إعادة الركوع إذا خر لها من الركوع ، بناء على أصله أن القومة التي بين الركوع والسجود فرض ، بخلاف ما إذا سبقه الحدث في ركوعه أو سجوده أنه يتوضأ ويعيد بعد ما أحدث فيه لا محالة ; لأن الجزء الذي لا قاه الحدث من الركن قد فسد فكان ينبغي أن يفسد كل الصلاة ; لأنها لا تتجزأ ، إلا أنا تركنا هذا القياس بالنص والإجماع في حق جواز البناء ، فيعمل به في حق الركن الذي أحدث فيه . أبي يوسف
ولو لم يسجدها حتى سلم فلا يخلو إما أن سلم وهو ذاكر لها ، أو ساه عنها .
فإن سلم وهو ذاكر لها فسدت صلاته ، وإن كان ساهيا لا تفسد ، والأصل أن السلام العمد يوجب الخروج عن الصلاة إلا سلام من عليه السهو ، وسلام السهو لا يوجب الخروج عن الصلاة ; لأن السلام محلل في الشرع ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : { } ولأنه كلام ، والكلام مضاد للصلاة ، إلا أن الشرع منعه عن العمل حالة السهو ضرورة دفع الحرج ; لأن الإنسان قلما يسلم عن النسيان ، وفي حق من عليه سهو ضرورة تمكنه من سجود السهو ، ولا ضرورة في غير حالة السهو في حق من لا سهو عليه فوجب اعتباره محللا منافيا للصلاة إذا عرفنا هذا فنقول : إذا سلم وهو ذاكر أن عليه سجدة صلبية فسدت صلاته وعليه الإعادة ; لأن سلام العمد قاطع للصلاة ، وقد بقي عليه ركن من أركانها ، ولا وجود للشيء بدون ركنه وإن كان ساهيا لا تفسد ; لأنه ملحق بالعدم ; ضرورة دفع الحرج على ما مر ، ثم إن سلم وهو في مكانه - لم يصرف وجهه عن القبلة ، ولم يتكلم - يعد إلى قضاء ما عليه . وتحليلها التسليم ،
ولو اقتدى به رجل صح اقتداؤه ، وإذا عاد إلى السجدة يتابعه المقتدي فيها ولكن لا يعتد بهذه السجدة ; لأنه لم يدرك الركوع ، ويتابعه في التشهد دون التسليم ، وبعد التسليم يتابعه في سجود السهو ، فإذا سلم الإمام ساهيا لا يتابعه ولكنه يقوم إلى قضاء ما سبق به ، وإن لم يعد الإمام إلى قضاء السجدة فسدت صلاته ; لأنه بقي عليه ركن من أركان الصلاة وفسدت صلاة المقتدي بفساد صلاة الإمام بعد صحة الاقتداء به ، وفائدة صحة اقتدائه به أنه لو كان فعليه قضاء أربع ركعات إن كان الإمام مقيما ، وإن كان مسافرا فعليه قضاء ركعتين . اقتدى به بنية التطوع في صلاة الظهر أو العصر أو العشاء
وأما إذا صرف وجهه عن القبلة فإن كان في المسجد ، ولم يتكلم فكذلك الجواب استحسانا ، والقياس أن لا يعود ، وهو رواية . محمد
وجه القياس أن صرف الوجه عن القبلة مفسد للصلاة بمنزلة الكلام فكان مانعا من البناء .
( وجه ) الاستحسان أن المسجد كله في حكم مكان واحد ; لأنه مكان الصلاة ألا يرى أنه صح اقتداء من هو في [ ص: 169 ] المسجد بالإمام وإن كان بينهما فرجة ، واختلاف المكان يمنع صحة الاقتداء فكان بقاؤه فيه كبقائه في مكان صلاته ، وصرف الوجه عن القبلة مفسد في غير حالة العذر والضرورة ، فأما في حال العذر والضرورة فلا بخلاف الكلام ; لأنه مضاد للصلاة فيستوي فيه الحالان ، وإن كان خرج من المسجد ثم تذكر لا يعد وتفسد صلاته ; لأن الخروج من مكان الصلاة مانع من البناء وقد بقي عليه ركن من أركان الصلاة فيلزمه الاستقبال .
وأما إذا كان في الصحراء فإن تذكر قبل أن يجاوز الصفوف من خلفه أو من قبل اليمين أو اليسار عاد إلى قضاء ما عليه ، وإلا فلا ; لأن ذلك الموضع بحكم اتصال الصفوف التحق بالمسجد ، ولهذا صح الاقتداء .
وإن مشى أمامه ، لم يذكر في الكتاب ، وقيل : إن مشى قدر الصفوف التي خلفه عاد وبنى وإلا فلا ، وهو مروي عن اعتبارا لأحد الجانبين بالآخر ، وقيل : إذا جاوز موضع سجوده لا يعود ، وهو الأصح ; لأن ذلك القدر في حكم خروجه من المسجد فكان مانعا من البناء ، وهذا إذا لم يكن بين يديه سترة فإن كان يعود ما لم يجاوزها ; لأن داخل السترة في حكم المسجد والله أعلم هذا إذا سلم وعليه سجدة صلبية فإن أبي يوسف فإن سلم وهو ذاكر لها سقطت عنه ; لأن سلامه سلام عمد فيخرجه عن الصلاة ، حتى لو اقتدى به رجل لا يصح اقتداؤه . سلم وعليه سجدة تلاوة ، أو قراءة التشهد الأخير -
ولو ضحك قهقهة لا تنتقض طهارته ، ولو كان مسافرا فنوى الإقامة لا ينقلب فرضه أربعا ، ولا تفسد صلاته ; لأنه لم يبق عليه ركن من أركان الصلاة لكنها تنتقص لترك الواجب ، وإن كان ساهيا عنها لا تسقط ; لأن سلام السهو لا يخرج عن الصلاة ، حتى يصح الاقتداء به وينتقض وضوءه بالقهقهة ، ويتحول فرضه بنية الإقامة لو كان مسافرا أربعا ، ثم الأمر في العود إلى قضاء السجدة وقراءة التشهد على التفصيل الذي ذكرنا في الصلبية ، غير أن ههنا لو تذكر بعد ما خرج عن المسجد أو جاوز الصفوف - سقط عنه ولا تفسد صلاته ; لأن الجواز متعلق بالأركان وقد وجدت ، إلا أنها تنتقص لما بينا ، ثم العود إلى هذه المتروكات وهي السجدة الصلبية وسجدة التلاوة وقراءة التشهد يرفع التشهد ، حتى لو تكلم أو قهقه أو أحدث متعمدا فسدت صلاته ، بخلاف العود إلى سجدتي السهو وقد مر الفرق .
ولو فإن سلم وهو ذاكر لهما أو للصلبية خاصة فسدت صلاته ; لأنه سلام عمد وقد بقي عليه ركن من أركان الصلاة ، وإن كان ساهيا عنها وذاكرا للسهو خاصة لا تفسد صلاته ، أما إذا كان ساهيا عنهما فلا شك فيه ، وكذا إذا كان ذاكرا للسهو ; لأنه سلام من عليه السهو ، وعليه أن يعود فيسجد أولا للصلبية ويتشهد ; لأن تشهده انتقض بالعود إليها ، ثم يسلم ، ثم يسجد سجدتي السهو . سلم وعليه سجدة صلبية وسجدتا سهو
ولو سلم وعليه سجدة التلاوة والسهو فإن كان ذاكرا لهما أو للتلاوة خاصة سقطتا عنه ; لأنه سلام عمد فيخرجه عن الصلاة ، ولكن لا تفسد صلاته لما مر ، وإن كان ساهيا عنهما أو ذاكرا لسجدتي السهو خاصة لا يسقطان عنه ; لأنه سلام سهو أو سلام من عليه السهو ، وعليه أن يسجد التلاوة أولا ثم يتشهد - لما مر - ثم يسلم ويسجد سجدتي السهو .
ولو فإن كان ساهيا عنهما يعود فيقضهما الأول فالأول وإن كان ذاكرا لهما أو للصلبية خاصة فسدت صلاته ; لأنه سلام عمد ، وإن كان ذاكرا للتلاوة خاصة فكذلك في ظاهر الرواية وعلى هذا إذا كان عليه مع الصلبية والتلاوة سجدتا السهو إن كان ساهيا عن الكل أو ذاكرا للسهو خاصة لا تفسد صلاته ; لأنه سلام سهو فيعود فيقضي الأول فالأول إن كانت الصلبية أولا بدأ بها ، وإن كانت التلاوة أولا بدأ بها عنده ، خلافا سلم وعليه سجدة صلبية وسجدة التلاوة على ما مر ثم يتشهد بعدهما ويسلم ثم يسجد سجدتي السهو ، وإن كان ذاكرا للصلبية خاصة فسدت صلاته ; لأنه سلام عمد ، وإن كان ذاكرا للتلاوة ساهيا عن الصلبية فكذلك في ظاهر الرواية ، وروى أصحاب الإمام عن لزفر أنه لا تفسد صلاته في الفصلين ، ( ووجهه ) أن سلامه في حق الركن سلام سهو وذا لا يوجب فساد الصلاة ، وبعض الطاعنين على أبي يوسف في هذه المسألة قرروا هذا الوجه فقالوا : إن هذا سلام سهو في حق الركن ، وسلام عمد في حق الواجب ، وسلام السهو لا يخرجه وسلام العمد يخرجه فوقع الشك ، والتحريمة صحيحة فلا تبطل بالشك ، بخلاف ما إذا كان ذاكرا للصلبية غير ذاكر للتلاوة ; لأن هناك ترجح جانب الركن على جانب الواجب ، وفيما قاله محمد ترجيح جانب [ ص: 170 ] الواجب وهذا لا يجوز ; إلا أن هذا الطعن فاسد ; لأن جانب العمد يخرج وجانب الشك مسكوت عنه لا يخرج ولا يمنع غيره عن الإخراج ، فلا يقع التعارض بين الواجب والركن . محمد
وإنما يقع التعارض أن لو كان أحدهما مخرجا والآخر مبقيا ، وههنا جانب الواجب يوجب الخروج ، وجانب الركن لا يوجب ولكن لا يمنع غيره عن الإخراج ، فأنى يقع التعارض ؟ على أن كل سلام ينبغي أن يكون مخرجا ; لأنه جعل محللا شرعا لقول النبي صلى الله عليه وسلم : وتحليلها التسليم ، ولأنه من باب الكلام على ما مر إلا أنه منع من الإخراج حالة السهو دفعا للحرج لكثرة السهو وغلبة النسيان ، ولا يكره سلام من علم أن عليه الواجب ; لأن الظاهر من حال المسلم أنه لا يترك الواجب فبقي مخرجا على أصل الوضع ، ولأنا لو لم نحكم بفساد صلاته حتى لو أتى بالصلبية - يلزمنا القول بأنه يأتي بسجدة التلاوة أيضا لبقاء التحريمة ، ولا سبيل إليه ; لأنه سلم وهو ذاكر للتلاوة فكان سلام عمد في حقه ، وقراءة التشهد الأخير في هذا الحكم كسجدة التلاوة ; لأنها واجبة .
لا يسقط عنه شيء من ذلك ، سواء كان ساهيا عن الكل أو ذاكرا للكل ; لأن موضع هذه الأشياء بعد السلام ، فإذا أراد أن يؤدي بدأ بالسهو ثم بالتكبير ثم بالتلبية ; لأن سجود السهو يختص بتحريمة الصلاة ، والتكبير يؤتى به في حرمة الصلاة لا في تحريمتها ، والتلبية لا تختص بحرمة الصلاة . ولو سلم وعليه سجود السهو والتكبير والتلبية بأن كان محرما وهو في أيام التشريق
ولو بدأ بالتلبية سقط عنه السهو والتكبير ، وكذا إذا لبى بعد السهو قبل التكبير سقط عنه التكبير ; لأن سجود السهو يختص بتحريمة الصلاة ، والتكبير يختص بحرمتها ، وقد بطل ذلك كله بالتلبية ; لأنها كلام لكونها جوابا لخطاب إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال الله تعالى : { وأذن في الناس بالحج } .
ولو بدأ بالتكبير لا يسقط عنه السهو ; لأنه كلام قربة فلا يوجب القطع ، وعليه إعادة التكبير بعد السلام ; لأنه لم يقع موقعه ، ولا تفسد صلاته في الأحوال كلها لاستجماع شرائطها وأركانها .