( فصل ) :
وأما فنقول - وبالله التوفيق : لا خلاف في حد الزنا والشرب والسكر والسرقة أنه لا يحتمل العفو والصلح والإبراء بعد ما ثبت بالحجة ; لأنه حق الله تعالى خالصا ، لا حق للعبد فيه فلا يملك إسقاطه ، وكذا يجري [ ص: 56 ] فيه التداخل ; حتى لو زنى مرارا أو شرب الخمر مرارا أو سكر مرارا - لا يجب عليه إلا حد واحد ; لأن المقصود من إقامة الحد هو الزجر وأنه يحصل بحد واحد ، فكان في الثاني والثالث احتمال عدم حصول المقصود ، فكان فيه احتمال عدم الفائدة ، ولا يجوز إقامة الحد مع احتمال عدم الفائدة ، ولو زنى أو شرب أو سكر أو سرق فحد ، ثم زنى أو شرب أو سرق يحد ثانيا ; لأنه تبين أن المقصود لم يحصل ، وكذا إذا سرق سرقات من أناس مختلفة فخاصموا جميعا فقطع لهم - كان القطع عن السرقات كلها ، والكلام في الضمان نذكره في كتاب السرقة - إن شاء الله تعالى . صفات الحدود
( وأما ) حد القذف إذا ثبت بالحجة فكذلك عندنا لا يجوز العفو عنه والإبراء والصلح ، وكذلك إذا عفا المقذوف قبل المرافعة ، أو صالح على مال - فذلك باطل ويرد به الصلح ، وله أن يطالبه بعد ذلك ، وعند - رحمه الله - يصح ذلك كله ، وهو إحدى الروايتين عن الشافعي - رحمه الله - وكذا يجري فيه التداخل عندنا حتى لو قذف إنسانا بالزنا بكلمة ، أو قذف كل واحد بكلام على حدة - لا يجب عليه إلا حد واحد سواء حضروا جميعا أو حضر واحد ، وقال أبي يوسف - رحمه الله - إذا قذف كل واحد بكلام على حدة - فعليه لكل واحد حد على حدة ، ولو ضرب القاذف تسعة وسبعين سوطا ، ثم قذف آخر ضرب السوط الأخير فقط عندنا ، وعنده يضرب السوط الأخير للأول وثمانين سوطا أخر للثاني ، ولو قذف رجلا فحد ، ثم قذف آخر - يحد للثاني بلا خلاف ، وكذا هذا الحد لا يورث عند أصحابنا رضي الله عنهم ، وعندهم يورث ، ويقسم بين الورثة على فرائض الله - عز شأنه - في قول ، وفي قول يقسم بين الورثة إلا الزوج والزوجة ، والكلام في هذا الفرع بناء على أصل مختلف بيننا وبينه ، وهو أن حد القذف خالص حق الله - سبحانه وتعالى - أو المغلب فيه حقه ، وحق العبد مغلوب عندنا ، وعنده هو حق العبد أو المغلب حق العبد . الشافعي
( وجه ) قوله أن سبب وجوب هذا الحد ; هو القذف ، والقذف جناية على عرض المقذوف بالتعرض ، وعرضه حقه بدليل أن بدل نفسه حقه وهو القصاص في العمد ، أو الدية في الخطأ ، فكان البدل حقه ، والجزاء الواجب على حق الإنسان حقه كالقصاص ، والدليل عليه أنه يشترط فيه الدعوى ، والدعوى لا تشترط في حقوق الله - تبارك وتعالى - كسائر الحقوق ، إلا أنه لم يفوض استيفاؤه إلى المقذوف لأجل التهمة ; لأن ضرب القذف أخف الضربات في الشرع ، فلو فوض إليه إقامة هذا الحد - فربما يقيمه على وجه الشدة ; لما لحقه من الغيظ بسبب القذف ففوض استيفاؤه إلى الإمام ; دفعا للتهمة لا لأنه حق الله - تعالى عز شأنه .
( ولنا ) أن سائر الحدود إنما كانت حقوق الله - تبارك وتعالى - على الخلوص ; لأنها وجبت لمصالح العامة وهي دفع فساد يرجع إليهم ويقع حصول الصيانة لهم ، فحد الزنا وجب ; لصيانة الأبضاع عن التعرض ، وحد السرقة وقطع الطريق وجب ; لصيانة الأموال والأنفس عن القاصدين ، وحد الشرب وجب ; لصيانة الأنفس والأموال والأبضاع في الحقيقة بواسطة صيانة العقول عن الزوال والاستتار بالسكر ، وكل جناية يرجع فسادها إلى العامة ومنفعة جزائها يعود إلى العامة ، كان الجزاء الواجب بها حق الله - عز شأنه - على الخلوص تأكيدا للنفع والدفع ; كي لا يسقط بإسقاط العبد وهو معنى نسبة هذه الحقوق إلى الله - تبارك وتعالى ، وهذا المعنى موجود في حد القذف ; لأن مصلحة الصيانة ودفع الفساد يحصل للعامة بإقامة هذا الحد ، فكان حق الله عز شأنه على الخلوص كسائر الحدود ، إلا أن الشرع شرط فيه الدعوى من المقذوف ، وهذا لا ينفي كونه حقا لله - تعالى عز شأنه - على الخلوص ، كحد السرقة أنه خالص حق الله - عز شأنه - وإن كانت الدعوى من المسروق منه شرطا .
ثم نقول : إنما شرط فيه الدعوى وإن كان خالص حق الله - تعالى عز اسمه ; لأن المقذوف يطالب القاذف ظاهرا أو غالبا ; دفعا للعار عن نفسه فيحصل ما هو المقصود من شرع الحد كما في السرقة ; ولأن حقوق العباد تجب بطريق المماثلة إما صورة ومعنى ، وإما معنى لا صورة ; لأنها تجب بمقابلة المحل جبرا ، والجبر لا يحصل إلا بالمثل ، ولا مماثلة بين الحد والقذف لا صورة ولا معنى ; فلا يكون حقه .
وأما حقوق الله - سبحانه وتعالى - فلا يعتبر فيها المماثلة ; لأنها تجب جزاء للفعل كسائر الحدود .
( ولنا ) أيضا دلالة الإجماع من وجهين : أحدهما - أن ولاية الاستيفاء للإمام بالإجماع ولو كان حق المقذوف لكان ولاية الاستيفاء له كما في القصاص .
( والثاني ) - أنه يتنصف برق القاذف ، [ ص: 57 ] وحق الله - تعالى - هو الذي يحتمل التنصيف بالرق لا حق العبد ; لأن حقوق الله - تعالى - تجب جزاء للفعل ، والجزاء يزداد بزيادة الجناية وينتقص بنقصانها ، والجناية تتكامل بكمال حال الجاني وتنتقص بنقصان حاله ، فأما حق العبد فإنه يجب بمقابلة المحل ولا يختلف باختلاف حال الجاني ، وإذا ثبت أن حد القذف حق الله - تعالى - خالصا أو المغلب فيه حقه فنقول : لا يصح العفو عنه ; لأن العفو إنما يكون من صاحب الحق ، ولا يصح الصلح والاعتياض ; لأن الاعتياض عن حق الغير لا يصح ولا يجري فيه الإرث ; لأن الإرث إنما يجري في المتروك من ملك أو حق للمورث على ما قال { } ولم يوجد شيء من ذلك فلا يورث ولا يجري فيه التداخل ; لما ذكرنا ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم . عليه الصلاة والسلام من ترك مالا أو حقا فهو لورثته