( فصل ) :
وأما حكم الحدود إذا اجتمعت ، فالأصل في أسباب أن يقدم حق العبد في الاستيفاء على حق الله - عز وجل ; لحاجة العبد إلى الانتفاع بحقه ، وتعالى الله - تعالى - عن الحاجات ، ثم ينظر إن لم يمكن استيفاء حقوق الله - تعالى - تسقط ضرورة ، وإن أمكن استيفاؤها فإن كان في إقامة شيء منها إسقاط البواقي - يقام ذلك درءا للبواقي [ ص: 63 ] لقوله عليه الصلاة والسلام : { الحدود إذا اجتمعت } وإن لم يكن في إقامة شيء منها إسقاط البواقي - يقام الكل جمعا بين الحقين في الاستيفاء ، وإذا ثبت هذا - فنقول : إذا اجتمع القذف والشرب والسكر والزنا من غير إحصان - والسرقة - بأن قذف إنسانا بالزنا ، وشرب الخمر وسكر من غير الخمر من الأشربة المعهودة ، وزنى وهو غير محصن ، وسرق مال إنسان ، ثم أتي به إلى الإمام ; بدأ الإمام بحد القذف فيضربه ; لأنه حق الله - عز شأنه - من وجه ، وما سواه حقوق العباد على الخلوص فيقدم استيفاؤه ، ثم يستوفي حقوق الله - تعالى ; لأنه يمكن استيفاؤها . ادرءوا الحدود ما استطعتم
وليس في إقامة شيء منها إسقاط البواقي فلا يسقط ، ثم إذا ضرب حد القذف - يحبس حتى يبرأ من الضرب ، ثم الإمام بالخيار في البداية إن شاء بدأ بحد الزنا ، وإن شاء بحد السرقة ، ويؤخر حد الشرب عنهما ; لأنهما ثبتا بنص الكتاب العزيز ، وحد الشرب لم يثبت بنص الكتاب الكريم ، إنما ثبت بإجماع مبني على الاجتهاد أو على خبر الواحد ، ولا شك أن الثابت بنص الكتاب آكد ثبوتا ، ولا يجمع ذلك كله في وقت واحد ، بل يقام كل واحد منهما بعد ما برأ من الأول ; لأن الجمع بين الكل في وقت واحد يفضي إلى الهلاك .
ولو كان من جملة هذه الحدود حد الرجم ، بأن زنى وهو محصن - يبدأ بحد القذف ، ويضمن السرقة ، ويرجم ، ويدرأ عنه ما سوى ذلك ; لأن حد القذف حق العبد فيقدم في الاستيفاء ، وفي إقامة حد الرجم إسقاط البواقي فيقام درءا للبواقي ; لأن الحدود واجبة الدرء ما أمكن ; فيدرأ ، إلا أنه يضمن السرقة ; لأن المال لا يحتمل الدرء ، وكذا لو كان مع هذه الحدود قصاص في النفس - يبدأ بحد القذف ويضمن السرقة ويقتل قصاصا ، ويدرأ ما سوى ذلك وإنما بدئ بحد القذف دون القصاص الذي هو خالص حق العبد ; لأن في البداية بالقصاص إسقاط حد القذف ولا سبيل إليه ; لذلك يبدأ بحد القذف ويقتل قصاصا ويبطل ما سوى ذلك ; لتعذر الاستيفاء بعد القتل ، إلا أنه يضمن السرقة ; لما قلنا .
ولو كان مع القصاص في النفس قصاص فيما دون النفس - يحد حد القذف ، ويقتص فيما دون النفس ، ويقتص في النفس ، ويلغى ما سوى ذلك ، ولو لم يكن في الحدود حد القذف ويقتص فيما دون النفس ، ثم يقتص في النفس ، ويلغى ما سوى ذلك ، ولو اجتمعت الحدود الخالصة والقتل يقتص ويلغى ما سوى ذلك ; لأن تقديم القصاص على الحدود في الاستيفاء واجب ، ومتى قدم استيفاؤه تعذر استيفاء الحدود ; فتسقط ضرورة ، والله - تعالى - أعلم .