( فصل ) : 
وأما بيان ما يجب على الغزاة الافتتاح به حالة الوقعة ، ولقاء العدو ،  فنقول - وبالله التوفيق : إن الأمر فيه لا يخلو من أحد وجهين إما أن كانت الدعوة قد بلغتهم ، وإما أن كانت لم تبلغهم ، فإن كانت الدعوة لم تبلغهم فعليهم الافتتاح بالدعوة إلى الإسلام باللسان    ; لقول الله - تبارك وتعالى - { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن    } ولا يجوز لهم القتال قبل الدعوة ; لأن الإيمان وإن وجب عليهم قبل بلوغ الدعوة بمجرد العقل  فاستحقوا القتل بالامتناع ، لكن الله - تبارك وتعالى - حرم قتالهم قبل بعث الرسول عليه الصلاة والسلام وبلوغ الدعوة إياهم فضلا منه ومنة قطعا لمعذرتهم بالكلية وإن كان لا عذر لهم في الحقيقة ; لما أقام - سبحانه وتعالى - من الدلائل العقلية التي لو تأملوها حق التأمل ، ونظروا فيها لعرفوا حق الله - تبارك وتعالى - عليهم ، لكن تفضل عليهم بإرسال الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ; لئلا يبقى لهم شبهة عذر { فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك    } . 
وإن لم يكن لهم أن يقولوا ذلك في الحقيقة لما بينا ، ولأن القتال ما فرض لعينه بل للدعوة إلى الإسلام ، والدعوة دعوتان : دعوة بالبنان ، وهي القتال ودعوة بالبيان ، وهو اللسان ، وذلك بالتبليغ والثانية أهون من الأولى ; لأن في القتال مخاطرة الروح والنفس والمال ، وليس في دعوة التبليغ شيء من ذلك ، فإذا احتمل حصول المقصود بأهون الدعوتين لزم الافتتاح بها ، هذا إذا كانت الدعوة لم تبلغهم ، فإن كانت قد بلغتهم جاز لهم أن يفتتحوا القتال من غير تجديد الدعوة    ; لما بينا أن الحجة لازمة ، والعذر في الحقيقة منقطع ، وشبهة العذر انقطعت بالتبليغ مرة ، لكن مع هذا الأفضل أن لا يفتتحوا القتال إلا بعد تجديد الدعوة لرجاء الإجابة في الجملة . 
وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يقاتل الكفرة حتى يدعوهم إلى الإسلام فيما كان دعاهم غير مرة دل أن الافتتاح بتجديد الدعوة أفضل ، ثم ، إذا دعوهم إلى الإسلام فإن أسلموا كفوا عنهم القتال ; لقوله عليه الصلاة والسلام { أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها   } وقوله عليه الصلاة والسلام { من قال لا إله إلا الله فقد عصم مني دمه وماله ،   } فإن أبوا الإجابة إلى الإسلام دعوهم إلى الذمة ، إلا مشركي العرب والمرتدين لما نذكره إن شاء الله - تعالى - بعد فإن أجابوا كفوا عنهم ; لقوله عليه الصلاة والسلام { فإن قبلوا عقد الذمة فأعلمهم أن لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما على المسلمين وإن أبوا ، استعانوا بالله - سبحانه وتعالى - على قتالهم ،   } ووثقوا بعهد الله - سبحانه وتعالى - النصر لهم بعد أن بذلوا جهدهم ، واستفرغوا وسعهم ، وثبتوا وأطاعوا الله - سبحانه وتعالى - ورسوله صلى الله عليه وسلم وذكروا الله كثيرا على ما قال - تبارك وتعالى - { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين    } ولهم أن يقاتلوهم وإن لم يبدءوا بالدعوة ; لقول الله - تعالى { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم    } وسواء كان في الأشهر الحرم أو في غيرها ; لأن حرمة القتال في الأشهر الحرم صارت منسوخة بآية السيف ، وغيرها من آيات القتال ، ولا بأس بالإغارة والبيات عليهم ، ولا بأس بقطع أشجارهم المثمرة ، وغير المثمرة ، وإفساد زروعهم ;  لقوله - تبارك وتعالى - { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين    } أذن - سبحانه وتعالى - بقطع النخيل في صدر الآية الشريفة ، ونبه في آخرها أن ذلك يكون كبتا وغيظا للعدو بقوله - تبارك وتعالى { وليخزي الفاسقين    } . 
ولا بأس بإحراق حصونهم بالنار ، وإغراقها بالماء ، وتخريبها وهدمها عليهم ، ونصب المنجنيق عليها ;  لقوله - تبارك وتعالى { يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين    } ولأن كل ذلك من باب القتال ; لما فيه من قهر العدو وكبتهم وغيظهم ، ولأن حرمة الأموال ; لحرمة أربابها ، ولا حرمة لأنفسهم حتى يقتلون ، فكيف لأموالهم ؟ ولا بأس برميهم بالنبال ، وإن علموا أن فيهم مسلمين من الأسارى والتجار  لما فيه من الضرورة ، إذ حصون الكفرة قلما تخلو من مسلم أسير ، أو تاجر فاعتباره يؤدي إلى انسداد باب  [ ص: 101 ] الجهاد ، ولكن يقصدون بذلك الكفرة دون المسلمين ; لأنه لا ضرورة في القصد إلى قتل مسلم بغير حق . 
وكذا إذا تترسوا بأطفال المسلمين  فلا بأس بالرمي إليهم ; لضرورة إقامة الفرض ، لكنهم يقصدون الكفار دون الأطفال ، فإن رموهم فأصاب مسلما  فلا دية ولا كفارة وقال  الحسن بن زياد    - رحمه الله : تجب الدية ، والكفارة وهو أحد قولي  الشافعي    - رحمه الله . 
( وجه ) قول  الحسن  أن دم المسلم معصوم فكان ينبغي أن يمنع من الرمي ، إلا أنه لم يمنع لضرورة إقامة الفرض فيتقدر بقدر الضرورة والضرورة في رفع المؤاخذة لا في نفي الضمان ، كتناول ماء الغير حالة المخمصة إنه رخص له التناول لكن يجب عليه الضمان لما ذكرنا ، كذلك هاهنا . 
( ولنا ) أنه كما مست الضرورة إلى دفع المؤاخذة لإقامة فرض القتال ، مست الضرورة إلى نفي الضمان أيضا ; لأن وجوب الضمان يمنع من إقامة الفرض ; لأنهم يمتنعون منه خوفا من لزوم الضمان ، وإيجاب ما يمنع من إقامة الواجب متناقض ، وفرض القتال لم يسقط ، دل أن الضمان ساقط بخلاف حالة المخمصة ; لأن وجوب الضمان هناك لا يمنع من التناول ; لأنه لو لم يتناول لهلك ، وكذا حصل له مثل ما يجب عليه ، فلا يمنع من التناول ، فلا يؤدي إلى التناقض ، ولا ينبغي للمسلمين أن يستعينوا بالكفار على قتال الكفار ;  لأنه لا يؤمن غدرهم ، إذ العداوة الدينية تحملهم عليه ، إلا إذا اضطروا إليهم والله - سبحانه وتعالى - أعلم . 
				
						
						
