وأما فأخذ منها سرية الإمام فإنما اختصوا بملكها للحاجة والضرورة ، وهي أن بالإمام حاجة إلى بعث السرايا لحراسة الحوزة وحماية البيضة عن شر الكفرة ، إذ الكفرة يقصدون دار الإسلام والدخول في حدودها بغتة ، فإذا علموا ببعث السرايا وتهيئهم للذب عن حريم الإسلام ، قطعوا الأطماع فبقيت البيضة محروسة ، فلو لم يختصوا بالمأخوذ ، لما انقاد طبعهم لكفاية هذا الشغل ، فتمتد أطماع الكفرة إلى دار الإسلام ، ولهذا إذا نفل الإمام سرية ، فأصابوا شيئا يختصون به لوقوع الحاجة إلى التنفيل ; لاختصاص بعض الغزاة بزيادة [ ص: 117 ] شجاعة ; لأنه لا ينقاد طبعه لإظهاره ، إلا بالترغيب بزيادة من المصاب بالتنفيل كذا هذا . السريتان إذا التقتا في دار الإسلام ،
وهل يجب فيه الخمس ؟ فعن رضي الله عنه روايتان والصحيح أنه لا يجب ; لأن الخمس إنما يجب في الغنائم ، والغنيمة اسم للمال المأخوذ عنوة وقهرا بإيجاف الخيل والركاب ، ولم يوجد لحصوله في أيديهم بغير قتال ، فكان مباحا ، ملك لا على سبيل القهر والغلبة فلا يجب فيه الخمس كسائر المباحات . أبي حنيفة
وكذا روي عن روايتان ، والصحيح أنه يجب فيه الخمس ; لأن الملك عنده يثبت بأخذه ، وإنما أخذه على سبيل القهر والغلبة ، فكان في حكم الغنائم ، ولو دخل دار الإسلام فأسلم قبل أن يؤخذ ، ثم أخذه واحد من المسلمين يكون فيئا لجماعة المسلمين أيضا عند محمد ، وعندهما يكون حرا لا سبيل لأحد عليه ، وهذا فرع الأصل الذي ذكرنا أن عند أبي حنيفة - رحمه الله - كما دخل دار الإسلام فقد انعقد سبب الملك فيه لوقوعه في يد أهل الدار ، فاعتراض الإسلام بعد انعقاد سبب الملك لا يمنع الملك ، وعندهما سبب الملك هو : الأخذ حقيقة ، فكان حرا قبله حيث وجد الإسلام قبل وجود سبب الملك فيه فيمنع ثبوت الملك على ما مر ، ولو رجع هذا الحربي إلى دار الحرب خرج من أن يكون فيئا بالإجماع . أبي حنيفة
أما عند فلأن حق أهل دار الإسلام لا يتأكد إلا بالأخذ حقيقة ، ولم يوجد وأما عندهما فلأنه لم يثبت الملك أصلا إلا بحقيقة الأخذ ، ولم يوجد ، وصار هذا كما إذا انفلت واحد من الأسارى قبل الإحراز بدار الإسلام ، والتحق بمنعتهم إنه يعود حرا كما كان كذا هذا ولو ادعى هذا الحربي بأمان ، لم يقبل قوله عند أبي حنيفة ، وعندهما يقبل . أبي حنيفة
أما عنده فلأن دخول دار الحرب سبب ثبوت الملك ، والأمان عارض مانع من انعقاد السبب ، فلا تقبل دعوى العارض إلا بحجة وأما عندهما فلأن الملك فيه يقف على حقيقة الأخذ فكان حرا قبله فكأن دعوى الأمان دعوى حكم الأصل فتقبل ، وكذلك لو قال الآخذ : إني آمنته لم يقبل قوله عند ، وعندهما يقبل . أبي حنيفة
أما عنده فلأن هذا إقرار يتضمن إبطال حق الغير فلا يقبل ، وعندهما هذا إقرار على نفسه ، وإنه غير متهم في حق نفسه ولو دخل هذا الحربي الحرم قبل أن يؤخذ ، فهو فيء عند ودخول أبي حنيفة الحرم لا يبطل ذلك عنه ; لأن ما ذكرنا من المعنى لا يوجب الفصل بين الحرم وغيره ، والدليل عليه أن الإسلام لم يبطل الملك ، فالحرم أولى ولأن الإسلام أعظم حرمة من الحرم ، وعندهما لا يكون فيئا إلا بحقيقة الأخذ فيبقى على أصل الحرية ، ولا يتعرض له ، لكنه لا يطعم ، ولا يسقى ، ولا يؤوى ، ولا يبايع ، حتى يخرج من الحرم .
ولو أمنه رجل من المسلمين في الحرم أو بعد ما خرج من الحرم قبل أن يؤخذ لم يصح عند وعندهما يصح ، ويرد إلى مأمنه ; لأن عنده صار فيئا لجماعة المسلمين بنفس دخول دار الإسلام ، وعندهما لا يصير فيئا إلا بحقيقة الأخذ ، فإذا أمنه قبل الأخذ يصح ولا يصح بعده ; لأنه مرموق ولو أخذه رجل في أبي حنيفة الحرم وأخرجه منه فقد أساء ، وكان فيئا لجماعة المسلمين عند وعندهما يكون لمن أخذه ، أما عنده فلأن الملك قد ثبت بدخوله دار الإسلام ، فالأخذ في أبي حنيفة الحرم لا يبطله وأما عندهما فلأن الملك وإن كان يثبت بالأخذ وإنه منهي لكن النهي لغيره ، وهو حرمة الحرم فلا يمنع كونه سببا للملك في ذاته كالبيع وقت النداء ونحو ذلك ، ولو أخذه في الحرم ولم يخرجه فينبغي أن يخلي سبيله في الحرم رعاية لحرمة الحرم ما دام فيه ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .