( فصل ) :
فنقول إن الإذن بالتجارة يبطل بضده وهو الحجر فيحتاج إلى بيان وأما بيان ما يبطل به الإذن بعد وجوده وذلك أنواع بعضها يرجع إلى المولى وبعضها إلى العبد أما الذي يرجع إلى المولى فثلاثة أنواع : صريح ودلالة وضرورة ، والصريح نوعان : خاص وعام أما العام فهو الحجر باللسان على سبيل الإشهار والإشاعة بأن يحجره في أهل سوقه بالنداء بالحجر ، وهذا النوع من الحجر يبطل به الإذن الخاص والعام جميعا ; لأن الإذن بالتجارة غير لازم فكان محتملا للبطلان والشيء يبطل بمثله وبما هو فوقه . ما يصير العبد به محجورا
وأما الخاص فهو أن يكون بين العبد وبين المولى ولا يكون على سبيل الاستفاضة والاشتهار وهذا النوع لا يبطل به الإذن العام ; لأن الشيء لا يبطل بما هو دونه ، ولأن الحجر إذا لم يشتهر فالناس يعاملونه بناء على الإذن العام ثم يظهر الحجر فيلحقهم ضرر الغرور وهو إتلاف ديونهم في ذمة المفلس .
ومعنى التغرير لا يتحقق في الإذن العام ; لأن الناس يمتنعون عن معاملته فلا يلحقهم ضرر الغرور ويبطل به الإذن الخاص ; لأن الحجر صحيح في حقهما حسب صحة الإذن فجاز أن يبطل به ; لأن الشيء يحتمل البطلان بمثله ومن شرط صحة هذين النوعين علم العبد بهما ، فإن لم يعلم لا يصير محجورا ; لأن الحجر منع من تصرف شرعي ، وحكم المنع في الشرائع لا يلزم الممنوع إلا بعد العلم كما في سائر الأحكام الشرعية صار محجورا بالإجماع ، وكذلك إذا أخبره واحد عدل رجلا كان أو امرأة حرا كان أو عبدا أو أخبره واحد غير عدل وصدقه ; لأن خبر الواحد في المعاملات مقبول من غير شرط العدد والعدالة والذكورة والحرية إذا صدقه فيه . ، ولو أخبره بالحجر رجلان أو رجل وامرأتان عدلا كان أو غير عدل
وأما إذا كذبه فلا يصير محجورا عند - رحمه الله - ، وإن ظهر صدق المخبر ، وعندهما يصير محجورا صدقه أو كذبه إذا ظهر صدق المخبر ، ولو كان المخبر رسولا يصير محجورا بالإجماع صدقه أو كذبه ، ولو أبي حنيفة ، فإن حجر على الأسفل لم يصح سواء كان على الأعلى دين أو لم يكن ; لأنه مأذون من جهة الأعلى لا من جهة المولى ، وإن حجر على الأعلى ينظر إن لم يكن عليه دين لا يصير الأسفل محجورا عليه ; لأنه إذا لم يكن عليه دين فهما عبدان مملوكان للمولى فيصير كأنه أذن لهما ثم حجر على أحدهما ، ولو كان كذلك ينحجر أحدهما بحجر الآخر كذا هذا ، وإن كان على الأعلى دين يصير محجورا عند اشترى المأذون عبدا فأذن له بالتجارة فحجر المولى على أحدهما ، وعندهما لا يصير محجورا بناء على أن المولى لا يملك كسب عبده المأذون المديون عنده ، وعندهما يملك . أبي حنيفة
( ووجه ) البناء أنه لما لم يملك عبده ، وقد استفاد الإذن من جهة الأعلى لا من جهة المولى صار حجر الأعلى كموته ، ولو مات لصار الثاني محجورا كذا هذا ، ولما ملك عندهما صار الجواب في هذا وفي الأول سواء ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وأما فأنواع منها البيع وهو الدلالة ; لأنه زال ملكه بالبيع وحدث للمشتري فيه ملك جديد فيزول إذن البائع لزوال ملكه ولم يوجد الإذن من المشتري فيصير محجورا ومنها الاستيلاد بأن كان أن يبيعه المولى ولا دين عليه استحسانا ، والقياس أن لا يبطل به الإذن ; لأنها قادرة على التصرف بعد الاستيلاد . المأذون جارية فاستولدها المولى
( وجه ) الاستحسان أن التجارة لا بد لها من الخروج إلى الأسواق ، وأمهات الأولاد ممنوعات عن الخروج في العادات فكان الاستيلاد حجرا دلالة .
وأما التدبير فلا يكون حجرا ; لأنه لا ينفي الإذن إذ الإذن إطلاق والتدبير لا ينافيه ، ; لأن الردة مع اللحوق توجب زوال الملك وذا يمنع بقاء الإذن فكان حجرا دلالة ، فإن لم يلحق بدار الحرب فعلى قياس قول [ ص: 207 ] ومنها لحوقه بدار الحرب مرتدا رضي الله عنه ينبغي أن يقف تصرف المأذون بعد الردة وعلى قياس قولهما ينفذ ، والله تعالى أعلم بالصواب وأما أبي حنيفة فأنواع أيضا : منها موته ; لأن الموت مبطل للملك وبطلان الملك يوجب بطلان الإذن على ما بينا ومنها جنونه جنونا مطبقا ; لأن أهلية الإذن شرط بقاء الإذن ; لأن الإذن بالتجارة غير لازم فكان لبقائه حكم الابتداء ثم ابتداء الإذن لا يصح من غير الأهل فلا يبقى أيضا والجنون المطبق مبطل للأهلية فصار محجورا . الضرورة
فإن أفاق يعد مأذونا ; لأن بطلان الإذن لبطلان الأهلية مع احتمال العود فإذا أفاق عادت الأهلية فعاد مأذونا ، وصار كالموكل إذا أفاق بعد جنونه أنه تعود الوكالة كذا هذا .
وأما الإغماء فلا يوجب الحجر ; لأنه لا يبطل الأهلية لكونه على شرف الزوال ساعة فساعة عادة ، ولهذا لا يمنع وجوب سائر العبادات .
وأما الذي يرجع إلى العبد فأنواع أيضا : منها إباقه ; لأنه بالإباق تنقطع منافع تصرفه عن المولى فلا يرضى به المولى وهذا ينافي الإذن ; لأن تصرف المأذون برضا المولى ، ومنها جنونه جنونا مطبقا ; لأنه مبطل أهلية التجارة على وجه لا يحتمل العود إلا على سبيل الندرة لزوال ما هو مبني عليه وهو العقل فلم يكن في بقاء الإذن فائدة فيبطل ، ولو أفاق بعد ذلك لا يعود مأذونا بخلاف الموكل ، والله سبحانه وتعالى أعلم وأما الجنون الذي هو غير مطبق فلا يوجب الحجر ; لأن غير المطبق منه ليس بمبطل للأهلية لكونه على شرف الزوال فكان في حكم الإغماء ومنها ردته عند ، وعندهما لا توجب الحجر بناء على وقوف تصرفاته عنده ونفوذها عندهما ، ومنها لحوقه بدار الحرب مرتدا ; لأن اللحوق بدار الحرب مرتدا بمنزلة الموت فكان مبطلا للأهلية فيصير محجورا لكن عند أبي حنيفة - رحمه الله - من وقت الردة ، وعندهما من وقت اللحوق والله تعالى أعلم . أبي حنيفة