( وأما ) بيان ما يصير به المولى مختارا للفداء ، وبيان صحة الاختيار ، فنقول : نوعان : نص ودلالة . ما يصير به المولى مختارا للفداء
( أما ) النص فهو الصريح بلفظ الاختيار ، وما يجري مجراه ، نحو أن يقول : اخترت الفداء ، أو آثرته ، أو رضيت به ، ونحو ذلك سواء كان المولى موسرا أو معسرا في قول رضي الله عنه فيسار المولى ليس بشرط لصحة الاختيار عنده ، حتى لو اختار الفداء ثم تبين أنه فقير معسر صح اختياره ، وصارت الدية دينا عليه ( وعندهما ) يسار المولى شرط صحة اختياره الفداء ، ولا يصح اختياره إذا كان معسرا إلا برضا الأولياء ، ويقال له إما أن تدفع أو تفدي حالا ، كذا ذكر الاختلاف [ ص: 264 ] في ظاهر الرواية . أبي حنيفة
وذكر قول الطحاوي مع قول محمد في جواز الاختيار . أبي حنيفة
وقال : إلا أن عند الدية تكون في عين العبد لولي الجناية يبيعه فيها المولى لولي الجناية . محمد
وهكذا روي عن . أبي يوسف
( وجه ) قولهما أن الحكم الأصلي لهذه الجناية هو لزوم الدفع ، وعند الاختيار ينتقل إلى الذمة فيتقيد الاختيار بشرط السلامة ، ولا سلامة مع الإعسار فلا ينتقل إليها فيبقى العبد واجب الدفع ، رحمه الله أن العزيمة ما قالا ، وهو وجوب الدفع لكن الشرع رخص له الفداء عند الاختيار ، والإعسار لا يمنع صحة الاختيار ; لأنه لا يقدح في الأهلية والولاية ، وقد وجد الاختيار مطلقا عن شرط السلامة فلا يجوز تقييد المطلق إلا بدليل . ولأبي حنيفة
( وأما ) الدلالة فهي أن يتصرف المولى في العبد تصرفا يفوت الدفع أو يدل على إمساك العبد مع العلم بالجناية ، فكل تصرف يفوت الدفع أو يدل على إمساك العبد مع العلم بالجناية يكون اختيارا للفداء ; لأن حق المجني عليه متعلق بالعبد ، وهو حق الدفع ، وفي تفويت الدفع تفويت حقه ، والظاهر أن المولى لا يرضى بتفويت حقه مع العلم بذلك إلا بما يقوم مقامه ، وهو الفداء فكان إقدامه عليه اختيارا للفداء ، وعلى هذا الأصل يخرج المسائل : إذا صار مختارا ; لأنه تصرف مزيل للملك فيفوت الدفع ، وكذا إذا باع بشرط خيار المشتري ، أما على أصلهما فلا يشكل ; لأن المبيع دخل في ملك المشتري . باع العبد بيعا باتا ، وهو عالم بالجناية
( وأما ) على أصل فلأن خيار المشتري إن كان يمنع دخول المبيع في ملكه فلا يمنع زواله عن ملك البائع ، وهذا يكفي دلالة الاختيار ; لأنه يفوت الدفع ، ولو باع على أنه بالخيار فإن مضت مدة الخيار قبل مضي المدة كان مختارا ; لأن البيع انبرم قبل الدفع ، ولو نقض البيع لم يكن مختارا ; لأن الملك لم يزل فلم يفت الدفع ، ولو عرض العبد على البيع لم يكن ذلك اختيارا عند أبي حنيفة أصحابنا الثلاثة رحمهم الله .
وقال رحمه الله يكون اختيارا ( وجه ) قوله أن العرض على البيع دليل استيفاء الملك . زفر
ألا ترى أن المشتري بشرط الخيار إذا عرض المشترى على البيع بطل اختياره فكان دليل إمساك العبد لنفسه وذلك دليل اختيار الفداء لما بينا .
( ولنا ) أن العرض على البيع لا يوجب زوال الملك فلا يفوت الدفع ، وليس دليل إمساك العبد أيضا بل هو دليل الإخراج من الملك فلا يصلح دليل اختيار الفداء ، ولو باعه بيعا فاسدا لم يكن مختارا حتى يسلمه إلى المشتري ; لأن الملك لا يزول قبل التسليم فلا يفوت الدفع ، ولو وهبه من إنسان ، وسلمه إليه صار مختارا ; لأن الهبة والتسليم يزيلان الملك فيفوت الدفع ، ولو كانت الجناية فيما دون النفس فوهبه المولى من المجني عليه لا يصير مختارا ، ولا شيء على المولى ، ولو باعه من المجني عليه كان مختارا ; لأن التسليم بالهبة في معنى الدفع ; لأن كل واحد منهما تمليك بغير عوض ، فوقعت الهبة موقع الدفع ، بخلاف البيع ; لأنه تمليك بعوض ، والدفع تمليك بغير عوض فلا يقوم مقامه ، فكان الإقدام على البيع منه اختيارا للفداء ، وكذلك لو تصدق به على إنسان أو على المجني عليه فهو والهبة سواء ; لأن كل واحد منهما تمليك بغير عوض ، ولو أعتقه أو دبره أو كانت أمة فاستولدها ، وهو عالم بالجناية صار مختارا ; لأن هذه التصرفات تفوت الدفع إذ الدفع تمليك ، وإنها تمنع من التمليك ، فكانت اختيارا للفداء ، ولو كانت جناية العبد فيما دون النفس فأمر المولى المجني عليه بإعتاقه وهو عالم بالجناية صار المولى مختارا للفداء ; لأن إعتاقه بأمره مضاف إليه فكان دليل اختيار الفداء ، كما لو أعتق بنفسه ، ولو صار مختارا للفداء عند قال لعبده : إن قتلت فلانا فأنت حر فقتله أصحابنا الثلاثة رحمهم الله ، وعند رحمه الله لا يكون مختارا . زفر
( وجه ) قوله أنه إنما صار معتقا بالقول السابق ، وهو قوله أنت حر ، ولا جناية عند ذلك ، وبعد وجود الجناية لا إعتاق فكيف يصير مختارا .
( ولنا ) أن المعلق بالشرط يصير منجزا عند وجود الشرط بتنجيز مبتدأ كأنه قال له بعد وجود الجناية : أنت حر ، ونظيره إذا قال لامرأته وهو صحيح : إذا مرضت فأنت طالق ثلاثا ، فمرض حتى وقع الطلاق عليها يصير فارا عن الميراث حتى ترثه المرأة وإن كان التعليق في حالة الصحة لما قلنا ، كذا هذا ولو ، فإن صدقه ثم أعتقه صار مختارا للفداء بلا خلاف ، وإن كذبه فأعتقه لا يصير مختارا عند أخبر المولى إنسان أن عبده قد جنى فأعتقه رحمه الله ما لم يكن المخبر رجلان أو رجل [ ص: 265 ] واحد عدل ، وعندهما يصير مختارا للفداء ، ولا يشترط العدد في المخبر ، ولا عدالته ، وقد ذكرنا المسألة في كتاب الوكالة . أبي حنيفة