ثم يفتتح الطواف ، وهذا الطواف يسمى وطواف التحية ، وطواف أول عهد طواف اللقاء بالبيت ، وإنه سنة عند عامة العلماء .
وقال إنه فرض ، واحتج بظاهر قوله عز وجل { مالك بالبيت العتيق وليطوفوا } أمر بالطواف بالبيت فدل على الوجوب والفرضية ، ولنا أنه لا يجب على أهل مكة بالإجماع ، ولو كان ركنا لوجب عليهم ; لأن الأركان لا تختلف بين أهل مكة وغيرهم ، كطواف الزيارة فلما لم يجب على أهل مكة دل أنه ليس بركن .
والمراد من الآية طواف الزيارة لإجماع أهل التفسير ، ولأنه خاطب الكل بالطواف بالبيت ، وطواف الزيارة هو الذي يجب على الكل ، فأما طواف اللقاء فإنه لا يجب على أهل مكة دل على أن المراد هو طواف الزيارة .
وكذا سياق الآية دليل عليه ; لأنه أمرنا بذبح الهدايا بقوله عز وجل { ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } ، وأمر بقضاء التفث ، وهو الحلق ، والطواف بالبيت عقيب ذبح الهدي ; لأن كلمة " ثم " للترتيب مع التعقيب فيقتضي أن يكون الحلق والطواف مرتبين على الذبح ، والذبح يختص بأيام النحر ، لا يجوز قبلها فكذا الحلق ، والطواف ، وهو طواف الزيارة ، فأما طواف اللقاء فإنه يكون سابقا على أيام [ ص: 147 ] النحر فثبت أن المراد من الآية الكريمة طواف الزيارة ، وبه نقول : إنه ركن ، وإذا افتتح الطواف يأخذ عن يمينه مما يلي الباب فيطوف بالبيت سبعة أشواط يرمل في الثلاثة الأول ، ويمشي على هيئته في الأربعة الباقية ، والأصل فيه ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { بالبيت سبعة أشواط } . أنه استلم الحجر ثم أخذ عن يمينه مما يلي الباب فطاف
وأما الرمل فالأصل فيه أن كل طواف بعده سعي فمن سننه الاضطباع والرمل في الثلاثة الأشواط الأول منه ، وكل طواف ليس بعده سعي فلا رمل فيه ، وهذا قول عامة الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلا ما حكي عن رضي الله تعالى عنهما أن الرمل في الطواف ليس بسنة ، وجه قوله أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رمل ، وندب أصحابه إليه لإظهار الجلد للمشركين ، وإبداء القوة لهم من أنفسهم فإنه روي أنه { ابن عباس مكة ، وكفار قريش قد صفت عند دار الندوة ينظرون إليهم ويستضعفونهم ويقولون : أوهنتهم حمى يثرب فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد اضطبع بردائه ، ورمل ثم قال رحم الله امرأ أبدى من نفسه جلدا } . دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال { رحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة } ، وذلك المعنى قد زال فلم يبق الرمل سنة ، لكنا نقول : الرواية عن رضي الله تعالى عنهما لا تكاد تصح ; لأنه قد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل بعد فتح ابن عباس مكة وروي عن رضي الله عنهما أنه قال { ابن عمر بالبيت الطواف الأول خب ثلاثا ، ومشى أربعا } . كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طاف
وكذا أصحابه رضي الله تعالى عنهم بعده رملوا .
وكذا المسلمون إلى يومنا هذا فصار الرمل سنة متواترة ، فإما أن يقال : إن أول الرمل كان لذلك السبب ، وهو إظهار الجلادة ، وإبداء القوة للكفرة ، ثم زال ذلك السبب وبقيت سنة الرمل على الأصل المعهود أن بقاء السبب ليس بشرط لبقاء الحكم كالبيع ، والنكاح ، وغيرهما ، وإما أن يقال لما رمل النبي صلى الله عليه وسلم بعد زوال ذلك السبب صار الرمل سنة مبتدأة فنتبع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ، وإن كان لا نعقل معناه ، وإلى هذا أشار رضي الله تعالى عنه حين رمل في الطواف ، وقال : ما لي أهز كتفي ، وليس ههنا أحد رأيته ، لكن أتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال : لكن أفعل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويرمل من عمر الحجر إلى الحجر ، وهذا قول عامة العلماء .
وقال ، سعيد بن جبير ، وعطاء ، ومجاهد رضي الله تعالى عنهم لا يرمل بين الركن اليماني ، وبين وطاوس الحجر الأسود ، وإنما يرمل من الجانب الآخر ، وجه قولهم أن الرمل في الأصل كان لإظهار الجلادة للمشركين ، والمشركون إنما كانوا يطلعون على المسلمين من ذلك الجانب .
فإذا صاروا إلى الركن اليماني لم يطلعوا عليهم لصيرورة البيت حائلا بينهم وبين المسلمين ، ولنا ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثا من الحجر إلى الحجر ، والجواب عن قولهم أن الرمل كان لإظهار القوة والجلادة ، إن الرمل الأول كان لذلك .
وقد زال وبقي حكمه أو صار الرمل بعد ذلك سنة مبتدأة لا لما شرع له الأول بل لمعنى آخر لا نعقله .
وأما الاضطباع فلما روينا { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرمل مضطبعا بردائه } ، وتفسير الاضطباع بالرداء هو أن يدخل الرداء من تحت إبطه الأيمن ، ويرد طرفه على يساره ، ويبدي منكبه الأيمن ، ويغطي الأيسر ، سمي اضطباعا لما فيه من الضبع ، وهو العضد لما فيه من إبداء الضبعين ، وهما العضدان ، فإن زوحم في الرمل وقف فإذا ، وجد فرجة رمل ; لأنه ممنوع من فعله إلا على وجه السنة فيقف إلى أن يمكنه فعله على وجه السنة ، ويستلم الحجر في كل شوط يفتتح به إن استطاع من غير أن يؤذي أحدا لما روي { بالحجر الأسود استلمه } ، ولأن كل شوط طواف على حدة فكان استلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كلما مر الحجر فيه مسنونا كالشوط الأول ، وإن لم يستطع استقبله وكبر وهلل .
وأما الركن اليماني فلم يذكر في الأصل أن استلامه سنة ، ولكنه قال : إن استلمه فحسن ، وإن تركه لم يضره في قول رحمه الله ، وهذا يدل على أنه مستحب وليس بسنة ، وقال أبي حنيفة رحمه الله يستلمه ولا يتركه ، وهذا يدل على أن استلامه سنة ، ولا خلاف في أن تقبيله ليس بسنة . محمد
وقال يستلمه ، ويقبل يده ، وجه قول الشافعي ما روي عن محمد رضي الله تعالى عنه أنه قال : { عمر } ، وعن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم هذين الركنين ، ولا يتسلم غيرهما [ ص: 148 ] رضي الله عنهما قال { ابن عباس } ، وجه ما ذكر في الأصل وهو أنه مستحب ، وليس بمسنون أنه ليس من السنة تقبيله ، ولو كان مسنونا لسن تقبيله كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم الركن اليماني ، ويضع خده عليه كالحجر الأسود ، وعن رضي الله عنه { جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم استلم الركن اليماني ، ولم يقبله } ، وهذا يدل على أنه مستحب وليس بسنة .
وأما الركنان الآخران ، وهما العراقي ، والشامي فلا يستلمهما عند عامة الصحابة رضي الله عنهم ، وهو قولنا ، وعن ، معاوية ، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم أنه يستلم الأركان الأربعة ، وعن وسويد بن غفلة رضي الله عنهما أنه رأى ابن عباس ، معاوية استلما جميع الأركان فقال وسويدا ابن عباس : إنما يستلم هذين الركنين ، فقال لمعاوية : ليس شيء من معاوية البيت مهجورا ، والصحيح قول العامة ; لأن الاستلام إنما عرف سنة بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم ما استلم غير الركنين لما روينا عن رضي الله عنه أنه قال : { عمر } ، ولأن الاستلام لأركان رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم هذين الركنين ، ولا يستلم غيرهما البيت ، والركن الشامي والعراقي ليسا من الأركان حقيقة ; لأن ركن الشيء ناحيته ، وهما في ، وسط البيت ; لأن الحطيم من البيت ، وجعل طوافه من وراء الحطيم ، فلو لم يجعل طوافه من ، ورائه لصار تاركا الطواف ببعض البيت إلا أنه لا يجوز التوجه إليه في الصلاة لما ذكرنا فيما تقدم .