حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في
وبيان ما أنزل الله فيه ومعنى العود الموجب للكفارة الظهار
قال تعالى : ( الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم ) [ المجادلة : 2 - 4 ] .
ثبت في السنن والمسانيد : أن أوس بن الصامت ظاهر من زوجته خولة بنت مالك بن ثعلبة ، وهي التي جادلت فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واشتكت إلى الله ، وسمع الله شكواها من فوق سبع سماوات ، فقالت : ( أوس بن الصامت تزوجني وأنا شابة مرغوب في ، فلما خلا سني ، ونثرت له بطني ، جعلني [ ص: 293 ] كأمه عنده ، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما عندي في أمرك شيء ، فقالت : اللهم إني أشكو إليك ) وروي أنها قالت : ( يا رسول الله ، إن إن لي صبية صغارا ، إن ضمهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إلي جاعوا ، فنزل القرآن . )
وقالت : ( عائشة ، لقد جاءت الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات خولة بنت ثعلبة تشكو إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا في كسر البيت يخفى علي بعض كلامها فأنزل الله عز وجل : ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير ) ) [ المجادلة : 1 ] . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ) ليعتق رقبة ، قالت : لا يجد ، قال : فيصوم شهرين متتابعين ، قالت : يا رسول الله ، إنه شيخ كبير ما به من صيام ، قال : فليطعم ستين مسكينا ، قالت : ما عنده من شيء يتصدق به ، قالت : فأتي ساعتئذ بعرق من تمر ، قلت : يا رسول الله ، فإني أعينه بعرق آخر ، قال : أحسنت فأطعمي عنه ستين مسكينا ، وارجعي إلى ابن عمك
وفي السنن أن ( سلمة بن صخر البياضي ظاهر من امرأته مدة شهر رمضان ، ثم واقعها ليلة قبل انسلاخه ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنت بذاك يا سلمة " ، [ ص: 294 ] قال : قلت : أنا بذاك يا رسول الله مرتين وأنا صابر لأمر الله ، فاحكم في بما أراك الله ، قال : " حرر رقبة " قلت : والذي بعثك بالحق نبيا ما أملك رقبة غيرها ، وضربت صفحة رقبتي ، قال : فصم شهرين متتابعين ، قال : وهل أصبت الذي أصبت إلا في الصيام ، قال : فأطعم وسقا من تمر بين ستين مسكينا ، قلت : والذي بعثك بالحق ، لقد بتنا وحشين ما لنا طعام ، قال فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك ، فأطعم ستين مسكينا وسقا من تمر ، وكل أنت وعيالك بقيتها ، قال : فرحت إلى قومي فقلت : وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ، ووجدت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السعة وحسن الرأي ، وقد أمر لي بصدقتكم )
وفي " جامع " عن الترمذي ، ابن عباس ) قال : هذا حديث حسن غريب صحيح . أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ظاهر من امرأته فوقع عليها ، فقال : يا رسول الله ، إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر ، قال : ( وما حملك على ذلك ، يرحمك الله ، قال رأيت خلخالها في ضوء القمر ، قال فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله
[ ص: 295 ] وفيه أيضا : عن سلمة بن صخر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ، فقال : ( كفارة واحدة ) وقال : حسن غريب انتهى ، وفيه انقطاع بين المظاهر يواقع قبل أن يكفر وسلمة سليمان بن يسار بن صخر .
وفي مسند ، عن البزار إسماعيل بن مسلم ، عن ، عن عمرو بن دينار ، عن طاووس رضي الله عنه ، قال : ( ابن عباس من قبل أن يتماسا )؟ فقال : أعجبتني ، فقال : أمسك عنها حتى تكفر ) قال أتى رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إني ظاهرت من امرأتي ، ثم وقعت عليها قبل أن أكفر ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ألم يقل الله ( : لا نعلمه يروى بإسناد أحسن من هذا ، على أن البزار إسماعيل بن مسلم قد تكلم فيه ، وروى عنه جماعة كثيرة من أهل العلم .
فتضمنت هذه الأحكام أمورا .
أحدها : إبطال ما كانوا عليه في الجاهلية ، وفي صدر الإسلام من كون الظهار طلاقا ، ولو صرح بنيته له ، فقال : أنت علي كظهر أمي ، أعني به الطلاق ، لم يكن طلاقا ، وكان ظهارا ، وهذا بالاتفاق ، إلا ما عساه من خلاف شاذ ، وقد نص عليه أحمد وغيرهما . قال والشافعي : ولو الشافعي كان ظهارا ، أو ظاهر يريد طلاقا كان طلاقا ، هذا لفظه ، فلا يجوز أن ينسب إلى مذهبه خلاف هذا ، ونص طلق يريد ظهارا أحمد : على أنه إذا قال : أنت علي كظهر أمي ، أعني به الطلاق ، أنه ظهار ولا تطلق به ، وهذا لأن الظهار كان طلاقا في الجاهلية فنسخ ، فلم يجز أن يعاد إلى الحكم المنسوخ .
وأيضا فأوس بن الصامت إنما نوى به الطلاق على ما كان عليه ، وأجرى عليه حكم الظهار دون الطلاق .
وأيضا فإنه صريح في حكمه ، فلم يجز جعله كناية في الحكم الذي [ ص: 296 ] أبطله عز وجل بشرعه ، وقضاء الله أحق ، وحكم الله أوجب .
ومنها أن الظهار حرام لا يجوز الإقدام عليه ؛ لأنه كما أخبر الله عنه منكر من القول وزور ، وكلاهما حرام ، والفرق بين جهة كونه منكرا ، وجهة كونه زورا ، أن قوله : أنت علي كظهر أمي يتضمن إخباره عنها بذلك وإنشاءه تحريمها ، فهو يتضمن إخبارا وإنشاء ، فهو خبر زور ، وإنشاء منكر ، فإن الزور هو الباطل خلاف الحق الثابت ، والمنكر خلاف المعروف ، وختم سبحانه الآية بقوله تعالى : ( وإن الله لعفو غفور ) وفيه إشعار بقيام سبب الإثم الذي لولا عفو الله ومغفرته لآخذ به .
ومنها : أن ، وهذا قول الجمهور ، وروى الكفارة لا تجب بنفس الظهار ، وإنما تجب بالعود ، عن الثوري ، عن ابن أبي نجيح قال : إذا تكلم بالظهار فقد لزمه ، وهذه رواية طاووس عنه ، وروى ابن أبي نجيح معمر ، عن ، عن أبيه في قوله تعالى : ( طاووس ثم يعودون لما قالوا ) قال : جعلها عليه كظهر أمه ، ثم يعود فيطؤها فتحرير رقبة .
وحكى الناس عن مجاهد : أنه تجب الكفارة بنفس الظهار ، وحكاه عن ابن حزم ، الثوري ، وهؤلاء لم يخف عليهم أن العود شرط في الكفارة ، ولكن العود عندهم هو العود إلى ما كانوا عليه في الجاهلية من التظاهر ، كقوله تعالى في جزاء الصيد : ( وعثمان البتي ومن عاد فينتقم الله منه ) [ المائدة : 95 ] أي عاد إلى الاصطياد بعد نزول تحريمه ، ولهذا قال : ( عفا الله عما سلف ) [المائدة : 95] قالوا : ولأن الكفارة إنما وجبت في مقابلة ما تكلم به من المنكر والزور ، وهو الظهار دون الوطء ، أو العزم عليه ، قالوا : ولأن الله سبحانه لما حرم الظهار ونهى عنه كان العود هو فعل المنهي عنه ، كما قال تعالى : ( عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا ) [ الإسراء : 8 ] أي إن عدتم إلى الذنب عدنا إلى العقوبة ؟ فالعود هنا نفس فعل المنهي عنه .
قالوا : ولأن ، فنقل حكمه من الطلاق [ ص: 297 ] إلى الظهار ، ورتب عليه التكفير ، وتحريم الزوجة حتى يكفر ، وهذا يقتضي أن يكون حكمه معتبرا بلفظه كالطلاق . الظهار كان طلاقا في الجاهلية
ونازعهم الجمهور في ذلك ، وقالوا : إن العود أمر وراء مجرد لفظ الظهار ، ولا يصح حمل الآية على العود إليه في الإسلام ؛ لثلاثة أوجه :
أحدها : أن هذه الآية بيان لحكم من يظاهر في الإسلام ، ولهذا أتى فيها بلفظ الفعل مستقبلا ، فقال : يظاهرون ، وإذا كان هذا بيانا لحكم ظهار الإسلام ، فهو عندكم نفس العود ، فكيف يقول بعده : ثم يعودون ، وأن معنى هذا العود غير الظهار عندكم ؟
الثاني : أنه لو كان العود ما ذكرتم ، وكان المضارع بمعنى الماضي ، كان تقديره : والذين ظاهروا من نسائهم ثم عادوا في الإسلام ، ولما وجبت الكفارة إلا على من تظاهر في الجاهلية ، ثم عاد في الإسلام ، فمن أين توجبونها على من ابتدأ الظهار في الإسلام غير عائد ؟ فإن هنا أمرين : ظهار سابق ، وعود إليه ، وذلك يبطل حكم الظهار الآن بالكلية ، إلا أن تجعلوا " يظاهرون " لفرقة ، ويعودون لفرقة ، ولفظ المضارع نائبا عن لفظ الماضي ، وذلك مخالف للنظم ، ومخرج عن الفصاحة .
الثالث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أوس بن الصامت ، وسلمة بن صخر بالكفارة ، ولم يسألهما : هل تظاهرا في الجاهلية أم لا ؟ فإن قلتم : ولم يسألهما عن العود الذي تجعلونه شرطا ، ولو كان شرطا لسألهما عنه .
قيل : أما من يجعل العود نفس الإمساك بعد الظهار زمنا ، يمكن وقوع الطلاق فيه ، فهذا جار على قوله وهو نفس حجته ، ومن جعل العود هو الوطء والعزم ، قال : سياق القصة بين في أن المتظاهرين كان قصدهم الوطء ، وإنما أمسكوا له ، وسيأتي تقرير ذلك إن شاء الله تعالى .
وأما كون الظهار منكرا من القول وزورا فنعم هو كذلك ولكن [ ص: 298 ] الله عز وجل إنما أوجب الكفارة في هذا المنكر والزور بأمرين : به ، وبالعود ، كما أن حكم الإيلاء إنما يترتب عليه وعلى الوطء لا على أحدهما .