فصل وقول  ابن عباس   : ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ، وقضى ألا يدعى ولدها لأب ولا ترمى ، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد ، وقضى أن لا بيت لها عليه ، ولا قوت من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها . 
وقول سهل   : فكان ابنها يدعى إلى أمه ، ثم جرت السنة أنه يرثها وترث منه ما فرض الله لها . 
وقوله : ( مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا ) . 
وقال  الزهري  ، عن  سهل بن سعد   : ( فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقال : لا يجتمعان أبدا  ) . وقول الزوج : ( يا رسول الله مالي ؟ قال " لا مال لك ؛ إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها ، وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها  ) . فتضمنت هذه الجملة عشرة أحكام . 
 [ ص: 349 ] الحكم الأول : التفريق بين المتلاعنين  ، وفي ذلك خمسة مذاهب . 
أحدها : أن الفرقة تحصل بمجرد القذف ، هذا قول أبي عبيد  ، والجمهور خالفوه في ذلك ، ثم اختلفوا ، فقال  جابر بن زيد   :  وعثمان البتي  ومحمد بن أبي صفرة  وطائفة من فقهاء البصرة : لا يقع باللعان فرقة ألبتة ، وقال  ابن أبي صفرة   : اللعان لا يقطع العصمة ، واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه الطلاق بعد اللعان ، بل هو أنشأ طلاقها ، ونزه نفسه أن يمسك من قد اعترف بأنها زنت ، أو أن يقوم عليه دليل كذب بإمساكها ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم فعله سنة ، ونازع هؤلاء جمهور العلماء وقالوا : اللعان يوجب الفرقة ، ثم اختلفوا على ثلاثة مذاهب . 
أحدها : أنها تقع بمجرد لعان الزوج وحده ، وإن لم تلتعن المرأة ، وهذا القول مما تفرد به  الشافعي  ، واحتج له بأنها فرقة حاصلة بالقول ، فحصلت بقول الزوج وحده كالطلاق . المذهب الثاني : أنها لا تحصل إلا بلعانهما جميعا ، فإذا تم لعانهما وقعت الفرقة ، ولا يعتبر تفريق الحاكم ، وهذا مذهب أحمد  في إحدى الروايتين عنه ، اختارها أبو بكر  ، وقول مالك  وأهل الظاهر ، واحتج لهذا القول بأن الشرع إنما ورد بالتفريق بين المتلاعنين ، ولا يكونان متلاعنين بلعان الزوج وحده ، وإنما فرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما بعد تمام اللعان منهما ، فالقول بوقوع الفرقة قبله مخالف لمدلول السنة وفعل النبي صلى الله عليه وسلم ، واحتجوا بأن لفظ اللعان لا يقتضي فرقة ، فإنه إما أيمان على زناها وإما شهادة به ، وكلاهما لا يقتضي فرقة ، وإنما ورد الشرع بالتفريق بينهما بعد تمام لعانهما لمصلحة ظاهرة ، وهي أن الله سبحانه جعل بين الزوجين مودة ورحمة ، وجعل كلا منهما سكنا للآخر ، وقد زال هذا بالقذف ، وأقامها مقام الخزي والعار والفضيحة ، فإنه إن كان كاذبا فقد فضحها وبهتها ورماها بالداء العضال ، ونكس رأسها ورءوس قومها ، وهتكها على رءوس الأشهاد . وإن كانت كاذبة فقد أفسدت فراشه وعرضته للفضيحة والخزي والعار بكونه زوج بغي  [ ص: 350 ] وتعليق ولد غيره عليه ، فلا يحصل بعد هذا بينهما من المودة والرحمة والسكن ما هو مطلوب بالنكاح ، فكان من محاسن شريعة الإسلام التفريق بينهما والتحريم المؤبد على ما سنذكره ، ولا يترتب هذا على بعض اللعان كما لا يترتب على بعض لعان الزوج ، قالوا : ولأنه فسخ ثبت بأيمان متحالفين ، فلم يثبت بأيمان أحدهما ، كالفسخ لتخالف المتبايعين عند الاختلاف . 
المذهب الثالث : أن الفرقة لا تحصل إلا بتمام لعانهما وتفريق الحاكم ، وهذا مذهب  أبي حنيفة  وإحدى الروايتين عن أحمد  ، وهي ظاهر كلام الخرقي  ، فإنه قال : ومتى تلاعنا وفرق الحاكم بينهما لم يجتمعا أبدا . واحتج أصحاب هذا القول بقول  ابن عباس  في حديثه : ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما . وهذا يقتضي أن الفرقة لم تحصل قبله ، واحتجوا بأن عويمرا  قال : كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها ، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا حجة من وجهين : 
أحدهما : أنه يقتضي إمكان إمساكها . 
والثاني : وقوع الطلاق ، ولو حصلت الفرقة باللعان وحده لما ثبت واحد من الأمرين ، وفي حديث  سهل بن سعد  أنه طلقها ثلاثا فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم . رواه أبو داود   . 
قال الموقعون للفرقة بتمام اللعان بدون تفريق الحاكم : اللعان معنى يقتضي التحريم المؤبد ، كما سنذكره ، فلم يقف على تفريق الحاكم كالرضاع ، قالوا : ولأن الفرقة لو وقعت على تفريق الحاكم لساغ ترك التفريق إذا كرهه الزوجان ، كالتفريق بالعيب والإعسار ، قالوا : وقوله : " فرق النبي صلى الله عليه وسلم" يحتمل أمورا ثلاثة ؛ أحدها : إنشاء الفرقة . والثاني : الإعلام بها . والثالث : إلزامه بموجبها من الفرقة الحسية . 
وأما قوله : كذبت عليها إن أمسكتها ، فهذا لا يدل على أن إمساكها بعد  [ ص: 351 ] اللعان مأذون فيه شرعا ، بل هو بادر إلى فراقها ، وإن كان الأمر صائرا إلى ما بادر إليه ، وأما طلاقه ثلاثة فما زاد الفرقة الواقعة إلا تأكيدا ، فإنها حرمت عليه تحريما مؤبدا ، فالطلاق تأكيد لهذا التحريم ، وكأنه قال : لا تحل لي بعد هذا . 
وأما إنفاذ الطلاق عليه فتقرير لموجبه من التحريم ، فإنها إذا لم تحل له باللعان أبدا كان الطلاق الثلاث تأكيدا للتحريم الواقع باللعان ، فهذا معنى إنفاذه ، فلما لم ينكره عليه وأقره على التكلم به وعلى موجبه جعل هذا إنفاذا من النبي صلى الله عليه وسلم ، وسهل  لم يحك لفظ النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : وقع طلاقك ، وإنما شاهد القصة وعدم إنكار النبي صلى الله عليه وسلم للطلاق ، فظن ذلك تنفيذا ، وهو صحيح بما ذكرنا من الاعتبار والله أعلم . 
				
						
						
