فصل الرابع : القافة ، حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضاؤه باعتبار القافة وإلحاق النسب بها   . 
ثبت في " الصحيحين " : من حديث  عائشة  رضي الله عنها قالت : ( دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال : " ألم تري أن مجززا المدلجي  نظر آنفا إلى  زيد بن حارثة   وأسامة بن زيد  وعليهما قطيفة قد غطيا رءوسهما وبدت أقدامهما ، فقال : إن هذه الأقدام بعضها من بعض  ) فسر  [ ص: 375 ] النبي صلى الله عليه وسلم بقول القائف ، ولو كانت كما يقول المنازعون من أمر الجاهلية كالكهانة ونحوها لما سر بها ولا أعجب بها ، ولكانت بمنزلة الكهانة . وقد صح عنه وعيد من صدق كاهنا . 
قال  الشافعي   : والنبي صلى الله عليه وسلم أثبته علما ولم ينكره ، ولو كان خطأ لأنكره ؛ لأن في ذلك قذف المحصنات ونفي الأنساب ، انتهى . 
كيف والنبي صلى الله عليه وسلم قد صرح في الحديث الصحيح بصحتها واعتبارها ، فقال في ولد الملاعنة : ( إن جاءت به كذا وكذا فهو لهلال بن أمية  ، وإن جاءت به كذا وكذا فهو لشريك ابن سحماء   ) فلما جاءت به على شبه الذي رميت به قال : ( لولا الأيمان لكان لي ولها شأن  ) وهل هذا إلا اعتبار للشبه وهو عين القافة ، فإن القائف يتبع أثر الشبه وينظر إلى من يتصل ، فيحكم به لصاحب الشبه ، وقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم الشبه وبين سببه ، ولهذا لما قالت له  أم سلمة   : أوتحتلم المرأة ؟ فقال " مم يكون الشبه ؟ " . 
وأخبر في الحديث الصحيح ( أن ماء الرجل إذا سبق ماء المرأة كان الشبه له ، وإذا سبق ماؤها ماءه كان الشبه لها  ) 
فهذا اعتبار منه للشبه شرعا وقدرا ، وهذا أقوى ما يكون من طرق الأحكام ، أن يتوارد عليه الخلق والأمر والشرع والقدر ، ولهذا تبعه خلفاؤه الراشدون في الحكم بالقافة . 
قال  سعيد بن منصور   : حدثنا سفيان  ، عن  يحيى بن سعيد  ، عن  سليمان بن  [ ص: 376 ] يسار  ، عن عمر  في امرأة وطئها رجلان في طهر ، فقال القائف : قد اشتركا فيه جميعا ، فجعله بينهما . 
قال  الشعبي   : وعلي  يقول : ( هو ابنهما وهما أبواه يرثانه ) ذكره سعيد  أيضا . 
وروى الأثرم  بإسناده ، عن  سعيد بن المسيب   ( في رجلين اشتركا في طهر امرأة فحملت فولدت غلاما يشبههما ، فرفع ذلك إلى  عمر بن الخطاب  ، فدعا القافة فنظروا فقالوا : نراه يشبههما ، فألحقه بهما وجعله يرثهما ويرثانه ) ولا يعرف قط في الصحابة من خالف عمر  وعليا  رضي الله عنهما في ذلك ، بل حكم عمر  بهذا في المدينة  وبحضرته المهاجرون  والأنصار  فلم ينكره منهم منكر . 
قالت الحنفية : قد أجلبتم علينا في القافة بالخيل والرجل ، والحكم بالقيافة تعويل على مجرد الشبه والظن والتخمين ، ومعلوم أن الشبه قد يوجد من الأجانب وينتفي عن الأقارب ، وذكرتم قصة أسامة  وزيد  ونسيتم قصة الذي ولدت امرأته غلاما أسود يخالف لونهما فلم يمكنه النبي صلى الله عليه وسلم من نفيه ولا جعل للشبه ولا لعدمه أثرا ، ولو كان للشبه أثر لاكتفى به في ولد الملاعنة ، ولم يحتج إلى اللعان ، ولكان ينتظر ولادته ثم يلحق بصاحب الشبه ، ويستغني بذلك عن اللعان ، بل كان لا يصح نفيه مع وجود الشبه بالزوج ، وقد دلت السنة الصحيحة الصريحة على نفيه عن الملاعن ، ولو كان الشبه له فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أبصروها فإن جاءت به كذا وكذا فهو لهلال بن أمية   ) وهذا قاله بعد اللعان ونفي النسب عنه ، فعلم أنه لو جاء على الشبه المذكور لم يثبت نسبه منه ، وإنما كان مجيئه على شبهه دليلا على كذبه ، لا على لحوق الولد به . قالوا : وأما قصة أسامة  وزيد  فالمنافقون كانوا يطعنون في نسبه من زيد   [ ص: 377 ] لمخالفة لونه لون أبيه ، ولم يكونوا يكتفون بالفراش وحكم الله ورسوله في أنه ابنه ، فلما شهد به القائف وافقت شهادته حكم الله ورسوله ، فسر به النبي صلى الله عليه وسلم لموافقتها حكمه ولتكذيبها قول المنافقين ، لا أنه أثبت نسبه بها ، فأين في هذا إثبات النسب بقول القائف ؟ قالوا : وهذا معنى الأحاديث التي ذكر فيها اعتبار الشبه ، فإنها إنما اعتبرت فيه الشبه بنسب ثابت بغير القافة ونحن لا ننكر ذلك . 
قالوا : وأما حكم عمر  وعلي  ، فقد اختلف على عمر  ، فروي عنه ما ذكرتم ، وروي عنه أن القائف لما قال له : قد اشتركا فيه قال : وال أيهما شئت . فلم يعتبر قول القائف . قالوا : وكيف تقولون بالشبه ولو أقر أحد الورثة بأخ وأنكره الباقون والشبه موجود لم تثبتوا النسب به وقلتم : إن لم تتفق الورثة على الإقرار به لم يثبت النسب ؟ 
قال أهل الحديث : من العجب أن ينكر علينا القول بالقافة  ويجعلها من باب الحدس والتخمين من يلحق ولد المشرقي بمن في أقصى المغرب ، مع القطع بأنهما لم يتلاقيا طرفة عين ، ويلحق الولد باثنين مع القطع بأنه ليس ابنا لأحدهما ، ونحن إنما ألحقنا الولد بقول القائف المستند إلى الشبه المعتبر شرعا وقدرا ، فهو استناد إلى ظن غالب ورأي راجح وأمارة ظاهرة ، بقول من هو من أهل الخبرة ، فهو أولى بالقبول من قول المقومين ، وهل ينكر مجيء كثير من الأحكام مستندا إلى الأمارات الظاهرة والظنون الغالبة ؟ 
وأما وجود الشبه بين الأجانب وانتفاؤه بين الأقارب وإن كان واقعا  [ ص: 378 ] فهو من أندر شيء وأقله ، والأحكام إنما هي للغالب الكثير ، والنادر في حكم المعدوم . وأما قصة من ولدت امرأته غلاما أسود فهو حجة عليكم ؛ لأنها دليل على أن العادة التي فطر الله عليها الناس اعتبار الشبه ، وأن خلافه يوجب ريبة ، وأن في طباع الخلق إنكار ذلك ، ولكن لما عارض ذلك دليل أقوى منه وهو الفراش كان الحكم للدليل القوي ، وكذلك نقول نحن وسائر الناس : إن الفراش الصحيح إذا كان قائما فلا يعارض بقافة ولا شبه ، فمخالفة ظاهر الشبه لدليل أقوى منه - وهو الفراش - غير مستنكر ، وإنما المستنكر مخالفة هذا الدليل الظاهر بغير شيء . 
وأما تقديم اللعان على الشبه وإلغاء الشبه مع وجوده ، فكذلك أيضا هو من تقديم أقوى الدليلين على أضعفهما ، وذلك لا يمنع العمل بالشبه مع عدم ما يعارضه ، كالبينة تقدم على اليد والبراءة الأصلية ويعمل بهما عند عدمهما . 
وأما ثبوت نسب أسامة  من زيد  بدون القيافة ، فنحن لم نثبت نسبه بالقيافة ، والقيافة دليل آخر موافق لدليل الفراش ، فسرور النبي صلى الله عليه وسلم وفرحه بها واستبشاره لتعاضد أدلة النسب وتضافرها ، لا لإثبات النسب بقول القائف وحده ، بل هو من باب الفرح بظهور أعلام الحق وأدلته وتكاثرها ، ولو لم تصلح القيافة دليلا لم يفرح بها ولم يسر ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفرح ويسر إذا تعاضدت عنده أدلة الحق ، ويخبر بها الصحابة ، ويحب أن يسمعوها من المخبر بها ؛ لأن النفوس تزداد تصديقا بالحق إذا تعاضدت أدلته وتسر به وتفرح ، وعلى هذا فطر الله عباده ، فهذا حكم اتفقت عليه الفطرة والشرعة . وبالله التوفيق . 
وأما ما روي عن عمر  أنه قال : وال أيهما شئت ، فلا تعرف صحته عن  [ ص: 379 ] عمر  ، ولو صح عنه لكان قولا عنه ، فإن ما ذكرنا عنه في غاية الصحة ، مع أن قوله : وال أيهما شئت ليس بصريح في إبطال قول القائف ، ولو كان صريحا في إبطال قوله لكان في مثل هذا الموضع إذا ألحقه باثنين ، ، كما يقوله  الشافعي  ومن وافقه . 
وأما إذا أقر أحد الورثة بأخ وأنكره الباقون ، فإنما لم يثبت نسبه لمجرد الإقرار ، فأما إذا كان هناك شبه يستند إليه القائف فإنه لا يعتبر إنكار الباقين ، ونحن لا نقصر القافة على بني مدلج  ، ولا نعتبر تعدد القائف ، بل يكفي واحد على الصحيح بناء على أنه خبر ، وعن أحمد  رواية أخرى : أنه شهادة فلا بد من اثنين ، ولفظ الشهادة بناء على اشتراط اللفظ . 
فإن قيل : فالمنقول عن عمر  أنه ألحقه بأبوين فما تقولون فيما إذا ألحقته القافة بأبوين  هل تلحقونه بهما أو لا تلحقونه إلا بواحد ، وإذا ألحقتموه بأبوين فهل يختص ذلك باثنين أم يلحق بهم وإن كثروا ، وهل حكم الاثنين في ذلك حكم الأبوين أم ماذا حكمهما ؟ 
قيل : هذه مسائل فيها نزاع بين أهل العلم ، فقال  الشافعي  ومن وافقه : لا يلحق بأبوين ، ولا يكون للرجل إلا أب واحد ، ومتى ألحقته القافة باثنين سقط قولها . وقال الجمهور : بل يلحق باثنين . ثم اختلفوا ، فنص أحمد  في رواية مهنا بن يحيى   : أنه يلحق بثلاثة ، وقال صاحب المغني : ومقتضى هذا أنه يلحق بمن ألحقته القافة به وإن كثروا ؛ لأنه إذا جاز إلحاقه باثنين جاز إلحاقه بأكثر من ذلك ، وهذا مذهب  أبي حنيفة  ، لكنه لا يقول بالقافة ، فهو يلحقه بالمدعين وإن كثروا ، وقال القاضي : يجب أن لا يلحق بأكثر من ثلاثة ، وهو قول محمد بن الحسن  ، وقال ابن حامد :  لا يلحق بأكثر من  [ ص: 380 ] اثنين ، وهو قول أبي يوسف  ، فمن لم يلحقه بأكثر من واحد قال : قد أجرى الله سبحانه عادته أن للولد أبا واحدا وأما واحدة ، ولذلك يقال : فلان بن فلان ، وفلان بن فلانة فقط . 
ولو قيل : فلان بن فلان وفلان لكان ذلك منكرا وعد قذفا ، ولهذا إنما يقال يوم القيامة : أين فلان بن فلان ؟ وهذه غدرة فلان بن فلان ، ولم يعهد قط في الوجود نسبة ولد إلى أبوين قط ، ومن ألحقه باثنين احتج بقول عمر  وإقرار الصحابة له على ذلك ، وبأن الولد قد ينعقد من ماء رجلين كما ينعقد من ماء الرجل والمرأة ، ثم قال أبو يوسف   : إنما جاء الأثر بذلك فيقتصر عليه . 
وقال القاضي : لا يتعدى به ثلاثة ؛ لأن أحمد إنما نص على الثلاثة ، والأصل ألا يلحق بأكثر من واحد ، وقد دل قول عمر  على إلحاقه باثنين مع انعقاده من ماء الأم ، فدل على إمكان انعقاده من ماء ثلاثة ، وما زاد على ذلك فمشكوك فيه . 
قال الملحقون له بأكثر من ثلاثة : إذا جاز تخليقه من ماء رجلين وثلاثة جاز خلقه من ماء أربعة وخمسة ، ولا وجه لاقتصاره على ثلاثة فقط ، بل إما أن يلحق بهم وإن كثروا ، وإما أن لا يتعدى به أحد ، ولا قول سوى القولين . والله أعلم . 
فإن قيل : إذا اشتمل الرحم على ماء الرجل وأراد الله أن يخلق منه الولد انضم عليه أحكم انضمام وأتمه حتى لا يفسد ، فكيف يدخل عليه ماء آخر ؟ 
قيل : لا يمتنع أن يصل الماء الثاني إلى حيث وصل الأول فينضم عليهما ، وهذا كما أن الولد ينعقد من ماء الأبوين ، وقد سبق ماء الرجل ماء المرأة أو بالعكس ، ومع هذا فلا يمتنع وصول الماء الثاني إلى حيث وصل الأول ، وقد علم بالعادة أن الحامل إذا توبع وطؤها جاء الولد عبل  [ ص: 381 ] الجسم ما لم يعارض ذلك مانع ؛ ولهذا ألهم الله سبحانه الدواب إذا حملت أن لا تمكن الفحل أن ينزو عليها ، بل تنفر عنه كل النفار . وقال الإمام أحمد : إن الوطء الثاني يزيد في سمع الولد وبصره ، وقد شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بسقي الزرع ، ومعلوم أن سقيه يزيد في ذاته ، والله أعلم . 
				
						
						
