ذكر حكمه صلى الله عليه وسلم في النفقة على الزوجات 
 وأنه لم يقدرها ، ولا ورد عنه ما يدل على تقديرها ، وإنما رد الأزواج فيها إلى العرف . 
ثبت عنه في " صحيح  مسلم   " أنه قال في خطبة حجة الوداع بمحضر الجمع العظيم قبل وفاته ببضعة وثمانين يوما : ( واتقوا الله في النساء ، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولهن عليكم رزقهن  [ ص: 438 ] وكسوتهن بالمعروف  ) . 
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في " الصحيحين " : ( أن هندا  امرأة أبي سفيان  قالت له : إن أبا سفيان  رجل شحيح ، ليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم ، فقال : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف  ) . 
وفي " سنن أبي داود   " من حديث حكيم بن معاوية  ، عن أبيه رضي الله عنه قال : ( أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، ما تقول في نسائنا ؟ قال : أطعموهن مما تأكلون ، واكسوهن مما تلبسون ، ولا تضربوهن ولا تقبحوهن  ) . 
وهذا الحكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم مطابق لكتاب الله عز وجل ، حيث يقول تعالى : ( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف   ) [ البقرة : 233 ] والنبي صلى الله عليه وسلم جعل نفقة المرأة مثل نفقة الخادم ، وسوى بينهما في عدم التقدير ، وردهما إلى المعروف فقال : ( للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف  ) فجعل نفقتهما بالمعروف ، ولا ريب أن نفقة الخادم غير مقدرة ، ولم يقل أحد بتقديرها . 
وصح عنه في الرقيق أنه قال : ( أطعموهم مما تأكلون ، وألبسوهم مما تلبسون  ) . 
رواه  مسلم  ، كما قال في الزوجة سواء . 
 [ ص: 439 ] وصح عن  أبي هريرة  رضي الله عنه أنه قال : ( امرأتك تقول : إما أن تطعمني ، وإما أن تطلقني ، ويقول العبد : أطعمني واستعملني . ويقول الابن : أطعمني إلى من تدعني  ) فجعل نفقة الزوجة والرقيق والولد كلها الإطعام لا التمليك . 
وروى  النسائي  هذا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي . 
وقال تعالى : ( من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم   ) [ المائدة : 89 ] ، وصح عن  ابن عباس  رضي الله عنهما أنه قال : ( الخبز والزيت ) ، وصح عن  ابن عمر  رضي الله عنه : ( الخبز والسمن ، والخبز والتمر ، ومن أفضل ما تطعمون الخبز واللحم ) . 
ففسر الصحابة إطعام الأهل بالخبز مع غيره من الأدم ، والله ورسوله ذكرا الإنفاق مطلقا من غير تحديد ولا تقدير ولا تقييد ، فوجب رده إلى العرف لو لم يرده إليه النبي صلى الله عليه وسلم ، فكيف وهو الذي رد ذلك إلى العرف ، وأرشد أمته إليه ؟ ومن المعلوم أن أهل العرف إنما يتعارفون بينهم في الإنفاق على أهليهم حتى من يوجب التقدير : الخبز والإدام دون الحب ، والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إنما كانوا ينفقون على أزواجهم ، كذلك دون تمليك الحب وتقديره ؛ ولأنها نفقة واجبة بالشرع ، فلم تقدر بالحب كنفقة الرقيق ، ولو كانت مقدرة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم هندا  أن تأخذ المقدر لها شرعا ، ولما أمرها أن تأخذ ما يكفيها من غير تقدير ورد الاجتهاد في ذلك إليها ، ومن المعلوم أن قدر كفايتها لا ينحصر في مدين ولا في رطلين ، بحيث لا يزيد عليهما ولا ينقص ، ولفظه لم يدل على ذلك بوجه ، ولا إيماء ، ولا إشارة ، وإيجاب مدين أو رطلين خبزا قد يكون أقل من الكفاية ، فيكون تركا  [ ص: 440 ] للمعروف ، وإيجاب قدر الكفاية مما يأكل الرجل وولده ورقيقه وإن كان أقل من مد أو من رطلي خبز إنفاق بالمعروف ، فيكون هذا هو الواجب بالكتاب والسنة ؛ ولأن الحب يحتاج إلى طحنه وخبزه وتوابع ذلك ، فإن أخرجت ذلك من مالها ، لم تحصل الكفاية بنفقة الزوج ، وإن فرض عليه ذلك لها من ماله كان الواجب حبا ودراهم ، ولو طلبت مكان الخبز دراهم أو حبا أو دقيقا أو غيره ، لم يلزمه بذله ، ولو عرض عليها ذلك أيضا لم يلزمها قبوله ؛ لأن ذلك معاوضة ، فلا يجبر أحدهما على قبولها ، ويجوز تراضيهما على ما اتفقا عليه . 
والذين قدروا النفقة اختلفوا ، فمنهم من قدرها بالحب ، وهو  الشافعي  ، فقال : نفقة الفقير مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن أقل ما يدفع في الكفارة إلى الواحد مد ، والله سبحانه اعتبر الكفارة بالنفقة على الأهل ، فقال : ( فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم   ) [ المائدة : 89 ] ، قال : وعلى الموسر مدان ؛ لأن أكثر ما أوجب الله سبحانه للواحد مدان في كفارة الأذى ، وعلى المتوسط مد ونصف ، نصف نفقة الموسر ، ونصف نفقة الفقير . 
وقال  القاضي أبو يعلى   : مقدرة بمقدار لا يختلف في القلة والكثرة ، والواجب رطلان من الخبز في كل يوم في حق الموسر والمعسر اعتبارا بالكفارات ، وإنما يختلفان في صفته وجودته ؛ لأن الموسر والمعسر سواء في قدر المأكول وما تقوم به البنية ، وإنما يختلفان في جودته ، فكذلك النفقة الواجبة . 
والجمهور قالوا : لا يحفظ عن أحد من الصحابة قط تقدير النفقة ، لا بمد ولا برطل ، والمحفوظ عنهم بل الذي اتصل به العمل في كل عصر ومصر ما ذكرناه . 
قالوا : ومن الذي سلم لكم التقدير بالمد والرطل في الكفارة ، والذي دل عليه القرآن والسنة أن الواجب في الكفارة الإطعام فقط لا التمليك ؟ قال تعالى في كفارة اليمين : ( فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم   )  [ ص: 441 ]  [ المائدة : 89 ] ، وقال في كفارة الظهار : ( فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا   ) [ المجادلة : 4 ] وقال في فدية الأذى : ( ففدية من صيام أو صدقة أو نسك   ) [ البقرة : 196 ] وليس في القرآن في إطعام الكفارات غير هذا ، وليس في موضع واحد منها تقدير ذلك بمد ولا رطل ، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمن وطئ في نهار رمضان : ( أطعم ستين مسكينا ) ، وكذلك قال للمظاهر ، ولم يحد ذلك بمد ولا رطل . 
فالذي دل عليه القرآن والسنة ، أن الواجب في الكفارات والنفقات هو الإطعام  لا التمليك ، وهذا هو الثابت عن الصحابة رضي الله عنهم . قال  أبو بكر بن أبي شيبة   : حدثنا أبو خالد  ، عن حجاج  ، عن أبي إسحاق  ، عن الحارث  ، عن علي   : يغديهم ويعشيهم خبزا وزيتا . 
وقال إسحاق  عن الحارث   : كان علي  يقول في إطعام المساكين في كفارة اليمين   : يغديهم ويعشيهم خبزا وزيتا ، أو خبزا وسمنا  . 
وقال  ابن أبي شيبة   : حدثنا يحيى بن يعلى  ، عن ليث  قال : كان  عبد الله بن مسعود  رضي الله عنه يقول : ( من أوسط ما تطعمون أهليكم   ) قال : الخبز والسمن ، والخبز والزيت ، والخبز واللحم . 
 [ ص: 442 ] وصح عن  ابن عمر  رضي الله عنهما قال : ( أوسط ما يطعم الرجل أهله الخبز واللبن ، والخبز والزيت ، والخبز والسمن ، ومن أفضل ما يطعم الرجل أهله الخبز واللحم )  . 
وقال  يزيد بن زريع   : حدثنا يونس  ، عن  محمد بن سيرين  ، أن  أبا موسى الأشعري  كفر عن يمين له مرة ، فأمر بجيرا أو جبيرا  يطعم عنه عشرة مساكين خبزا ولحما ، وأمر لهم بثوب معقد أو ظهراني  . 
وقال  ابن أبي شيبة   : حدثنا  يحيى بن إسحاق  ، حدثنا يحيى بن أيوب  ، عن حميد  ، أن أنسا  رضي الله عنه مرض قبل أن يموت ، فلم يستطع أن يصوم ، وكان يجمع ثلاثين مسكينا فيطعمهم خبزا ولحما أكلة واحدة  . 
وأما التابعون ، فثبت ذلك عن  الأسود بن يزيد  ، وأبي رزين  ، وعبيدة  ،  ومحمد بن سيرين  ،  والحسن البصري  ،  وسعيد بن جبير  ، وشريح  ،  وجابر بن زيد  ، وطاووس  ،  والشعبي  ، وابن بريدة  ، والضحاك  ، والقاسم  ، وسالم  ، ومحمد بن إبراهيم  ،  ومحمد بن كعب  ، وقتادة  ،  وإبراهيم النخعي  ، والأسانيد عنهم بذلك في أحكام القرآن  لإسماعيل بن إسحاق  ، منهم من يقول : يغدي المساكين ويعشيهم . ومنهم من يقول : أكلة واحدة . ومنهم من يقول : خبز ولحم ، خبز وزيت ، خبز وسمن ، وهذا مذهب أهل المدينة   ، وأهل العراق   ،  [ ص: 443 ] وأحمد  في إحدى الروايتين عنه ، والرواية الأخرى : أن طعام الكفارة مقدر دون نفقة الزوجات . 
فالأقوال ثلاثة : التقدير فيهما كقول  الشافعي  وحده ، وعدم التقدير فيهما كقول مالك   وأبي حنيفة  وأحمد  في إحدى الروايتين . والتقدير في الكفارة دون النفقة كالرواية الأخرى عنه . 
قال من نصر هذا القول : الفرق بين النفقة والكفارة أن الكفارة لا تختلف باليسار والإعسار ، ولا هي مقدرة بالكفاية ، ولا أوجبها الشارع بالمعروف ، كنفقة الزوجة والخادم ، والإطعام فيها حق لله تعالى لا لآدمي معين ، فيرضى بالعوض عنه ؛ ولهذا لو أخرج القيمة  لم يجزه ، وروي التقدير فيها عن الصحابة ، فقال القاضي إسماعيل   : حدثنا  حجاج بن المنهال  ، حدثنا أبو عوانة  ، عن منصور  ، عن أبي وائل  ، عن يسار بن نمير  ، قال : قال عمر   : ( إن ناسا يأتوني يسألوني ، فأحلف أني لا أعطيهم ، ثم يبدو لي أن أعطيهم ، فإذا أمرتك أن تكفر فأطعم عني عشرة مساكين ، لكل مسكين صاعا من تمر ، أو شعير ، أو نصف صاع من بر  ) . 
حدثنا  حجاج بن المنهال   وسليمان بن حرب  قالا : حدثنا  حماد بن سلمة  ، عن  سلمة بن كهيل  ، عن يحيى بن عباد  ، أن  عمر بن الخطاب  رضي الله عنه قال : ( يا يرفا  ، إذا حلفت فحنثت ، فأطعم عني ليميني خمسة أصوع عشرة مساكين )  . 
وقال  ابن أبي شيبة   : حدثنا  وكيع  ، عن  ابن أبي ليلى  ، عن عمر بن أبي مرة  ، عن عبد الله بن سلمة  ، عن علي  قال : ( كفارة اليمين  إطعام عشرة مساكين ، لكل مسكين نصف صاع  ) . 
حدثنا عبد الرحيم   وأبو خالد الأحمر  ، عن حجاج  ، عن قرط  ، عن جدته ،  [ ص: 444 ] عن  عائشة  رضي الله عنها قالت : ( إنا نطعم نصف صاع من بر ، أو صاعا من تمر في كفارة اليمين )  . 
وقال إسماعيل   : حدثنا  مسلم بن إبراهيم  ، حدثنا  هشام بن أبي عبد الله  ، حدثنا  يحيى بن أبي كثير  ، عن أبي سلمة  ، عن  زيد بن ثابت  قال : ( يجزئ في كفارة اليمين لكل مسكين مد حنطة )  . 
حدثنا  سليمان بن حرب  ، حدثنا  حماد بن يزيد  ، عن أيوب  ، عن نافع  ، أن  ابن عمر  رضي الله عنه كان إذا ذكر اليمين أعتق ، وإذا لم يذكرها أطعم عشرة مساكين ، لكل مسكين مد مد . 
وصح عن  ابن عباس  رضي الله عنهما : ( في كفارة اليمين مد ومعه أدمه )  . 
وأما التابعون فثبت ذلك عن  سعيد بن المسيب  ،  وسعيد بن جبير  ، ومجاهد  وقال : كل طعام ذكر في القرآن للمساكين فهو نصف صاع ، وكان يقول في كفارة الأيمان كلها : مدان لكل مسكين . 
وقال  حماد بن زيد  ، عن  يحيى بن سعيد  ، عن  سليمان بن يسار   : أدركت الناس وهم يعطون في كفارة اليمين مدا بالمد الأول  . وقال القاسم  وسالم  وأبو سلمة   : مد مد من بر ، وقال عطاء   : فرقا بين عشرة ، ومرة قال : مد مد . 
قالوا : وقد ثبت في " الصحيحين " ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال  لكعب بن عجرة  في كفارة فدية الأذى   : أطعم ستة مساكين نصف صاع نصف صاع ، طعاما لكل مسكين  ) . فقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم فدية الأذى ، فجعلنا تقديرها أصلا ، وعديناها إلى سائر الكفارات . ثم قال من قدر طعام الزوجة : ثم رأينا النفقات والكفارات قد اشتركا في الوجوب ، فاعتبرنا إطعام النفقة بإطعام الكفارة ، ورأينا الله سبحانه  [ ص: 445 ] قد قال في جزاء الصيد : ( أو كفارة طعام مساكين   ) [ المائدة : 95 ] ، وما أجمعت الأمة أن الطعام مقدر فيها ، ولهذا لو عدم الطعام ، صام عن كل مد يوما ، كما أفتى به  ابن عباس  والناس بعده ، فهذا ما احتجت به هذه الطائفة على تقدير طعام الكفارة . 
قال الآخرون : لا حجة في أحد دون الله ورسوله وإجماع الأمة ، وقد أمرنا تعالى أن نرد ما تنازعنا فيه إليه وإلى رسوله ، وذلك خير لنا حالا وعاقبة ، ورأينا الله سبحانه إنما قال في الكفارة : ( إطعام عشرة مساكين   ) ، و ( فإطعام ستين مسكينا   ) ، فعلق الأمر بالمصدر الذي هو الإطعام ، ولم يحد لنا جنس الطعام ولا قدره ، وحد لنا جنس المطعمين وقدرهم ، فأطلق الطعام وقيد المطعومين ، ورأيناه سبحانه حيث ذكر إطعام المسكين في كتابه ، فإنما أراد به الإطعام المعهود المتعارف ، كقوله تعالى : ( وما أدراك ما العقبة  فك رقبة  أو إطعام في يوم ذي مسغبة  يتيما   ) [ البلد : 12 ] . وقال : ( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا   ) [ الإنسان : 8 ] وكان من المعلوم يقينا ، أنهم لو غدوهم أو عشوهم أو أطعموهم خبزا ولحما أو خبزا ومرقا ونحوه لكانوا ممدوحين داخلين فيمن أثنى عليهم ، وهو سبحانه عدل عن الطعام الذي هو اسم للمأكول إلى الإطعام الذي هو مصدر صريح ، وهذا نص في أنه إذا أطعم المساكين ، ولم يملكهم ، فقد امتثل ما أمر به ، وصح في كل لغة وعرف : أنه أطعمهم . 
قالوا : وفي أي لغة لا يصدق لفظ الإطعام إلا بالتمليك ؟ ولما قال أنس  رضي الله عنه ( إن النبي صلى الله عليه وسلم أطعم الصحابة في وليمة زينب  خبزا ولحما  ) . كان قد اتخذ طعاما ودعاهم إليه على عادة الولائم ، وكذلك قوله في وليمة صفية   ( أطعمهم حيسا ) ، وهذا أظهر من أن نذكر شواهده ، قالوا : وقد زاد ذلك  [ ص: 446 ] إيضاحا وبيانا بقوله : ( من أوسط ما تطعمون أهليكم   ) [ المائدة : 89 ] ، ومعلوم يقينا أن الرجل إنما يطعم أهله الخبز واللحم والمرق واللبن ونحو ذلك ، فإذا أطعم المساكين من ذلك فقد أطعمهم من أوسط ما يطعم أهله بلا شك ، ولهذا اتفق الصحابة رضي الله عنهم في إطعام الأهل على أنه غير مقدر كما تقدم ، والله سبحانه جعله أصلا لطعام الكفارة ، فدل بطريق الأولى على أن طعام الكفارة غير مقدر . 
وأما من قدر طعام الأهل ، فإنما أخذ من تقدير طعام الكفارة ، فيقال : هذا خلاف مقتضى النص ، فإن الله أطلق طعام الأهل وجعله أصلا لطعام الكفارة ، فعلم أن طعام الكفارة لا يتقدر كما لا يتقدر أصله ، ولا يعرف عن صحابي ألبتة تقدير طعام الزوجة مع عموم هذه الواقعة في كل وقت . 
قالوا : فأما الفروق التي ذكرتموها ، فليس فيها ما يستلزم تقدير طعام الكفارة ، وحاصلها خمسة فروق ، أنها لا تختلف باليسار والإعسار ، وأنها لا تتقدر بالكفاية ، ولا أوجبها الشارع بالمعروف ، ولا يجوز إخراج العوض عنها ، وهي حق لله لا تسقط بالإسقاط بخلاف نفقة الزوجة ، فيقال : نعم لا شك في صحة هذه الفروق ، ولكن من أين يستلزم وجوب تقديرها بمد ومدين ؟ بل هي إطعام واجب من جنس ما يطعم أهله ، ومع ثبوت هذه الأحكام لا يدل على تقديرها بوجه . 
وأما ما ذكرتم عن الصحابة من تقديرها ، فجوابه من وجهين . 
أحدهما : أنا قد ذكرنا عن جماعة منهم : علي  وأنس  وأبو موسى   وابن  [ ص: 447 ] مسعود  رضي الله عنهم أنهم قالوا : يجزئ أن يغديهم ويعشيهم . 
الثاني : أن من روي عنهم المد والمدان لم يذكروا ذلك تقديرا وتحديدا ، بل تمثيلا ، فإن منهم من روي عنه المد ، وروي عنه مدان ، وروي عنه مكوك ، وروي عنه جواز التغدية والتعشية ، وروي عنه أكلة ، وروي عنه رغيف أو رغيفان ، فإن كان هذا اختلافا فلا حجة فيه ، وإن كان بحسب حال المستفتي وبحسب حال الحالف والمكفر فظاهر ، وإن كان ذلك على سبيل التمثيل فكذلك . فعلى كل تقدير لا حجة فيه على التقديرين . 
قالوا : وأما الإطعام في فدية الأذى فليس من هذا الباب ؛ فإن الله سبحانه قال : ( ففدية من صيام أو صدقة أو نسك   ) [ البقرة : 196 ] ، والله سبحانه أطلق هذه الثلاثة ولم يقيدها . وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تقييد الصيام بثلاثة أيام ، وتقييد النسك بذبح شاة ، وتقييد الإطعام بستة مساكين لكل مسكين نصف صاع ، ولم يقل سبحانه في فدية الأذى : فإطعام ستة مساكين ، ولكن أوجب صدقة مطلقة وصوما مطلقا ودما مطلقا فعينه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفرق ، والثلاثة الأيام ، والشاة . 
وأما جزاء الصيد  فإنه من غير هذا الباب ، فإن المخرج إنما يخرج قيمة الصيد من الطعام ، وهي تختلف بالقلة والكثرة ، فإنها بدل متلف لا ينظر فيها إلى عدد المساكين ، وإنما ينظر فيها إلى مبلغ الطعام ، فيطعمه المساكين على ما يرى من إطعامهم وتفضيل بعضهم على بعض ، فتقدير الطعام فيها على حسب المتلف ، وهو يقل ويكثر ، وليس ما يعطاه كل مسكين مقدرا . 
ثم إن التقدير بالحب يستلزم أمرا باطلا بين البطلان ، فإنه إذا كان الواجب لها عليه شرعا الحب ، وأكثر الناس إنما يطعم أهله الخبز ، فإن جعلتم هذا معاوضة كان ربا ظاهرا ، وإن لم تجعلوه معاوضة فالحب ثابت لها في ذمته ولم تعتض عنه فلم تبرأ ذمته منه إلا بإسقاطها وإبرائها ، فإذا لم تبرئه طالبته بالحب مدة طويلة مع إنفاقه عليها كل يوم حاجتها من الخبز والأدم ، وإن مات أحدهما  [ ص: 448 ] كان الحب دينا له أو عليه ، يؤخذ من التركة مع سعة الإنفاق عليها كل يوم . 
ومعلوم أن الشريعة الكاملة المشتملة على العدل والحكمة والمصلحة تأبى ذلك كل الإباء ، وتدفعه كل الدفع كما يدفعه العقل والعرف ، ولا يمكن أن يقال : إن النفقة التي في ذمته تسقط بالذي له عليها من الخبز والأدم لوجهين ، أحدهما : أنه لم يبعه إياها ، ولا اقترضه منها حتى يثبت في ذمتها ، بل هي معه فيه على حكم الضيف لامتناع المعاوضة عن الحب بذلك شرعا . ولو قدر ثبوته في ذمتها لما أمكنت المقاصة لاختلاف الدينين جنسا ، والمقاصة تعتمد اتفاقهما . هذا وإن قيل بأحد الوجهين إنه لا يجوز المعاوضة على النفقة مطلقا لا بدراهم ولا بغيرها لأنه معاوضة عما لم يستقر ولم يجب ، فإنها إنما تجب شيئا فشيئا ، فإنه لا تصح المعاوضة عليها حتى تستقر بمضي الزمان ، فيعاوض عنها كما يعاوض عما هو مستقر في الذمة من الديون ، ولما لم يجد بعض أصحاب  الشافعي  من هذا الإشكال مخلصا قال : الصحيح أنها إذا أكلت سقطت نفقتها . قال الرافعي  في " محرره " : أولى الوجهين السقوط ، وصححه النووي  لجريان الناس عليه في كل عصر ومصر ، واكتفاء الزوجة به . وقال الرافعي  في " الشرح الكبير " ، و " الأوسط " : فيه وجهان . أقيسهما : أنها لا تسقط ؛ لأنه لم يوف الواجب وتطوع بما ليس بواجب ، وصرحوا بأن هذين الوجهين في الرشيدة التي أذن لها قيمها ، فإن لم يأذن لها لم تسقط وجها واحدا . 
				
						
						
