فيحرم عليه أم امرأته من الرضاع وبنتها من الرضاعة وامرأة ابنه من الرضاعة ، أو يحرم الجمع بين الأختين من الرضاعة ، أو بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها من الرضاعة ؟ فحرمه الأئمة [ ص: 496 ] الأربعة وأتباعهم ، وتوقف فيه شيخنا وقال : إن كان قد قال أحد بعدم التحريم ، فهو أقوى . وهل يحرم نظير المصاهرة بالرضاع
قال المحرمون : تحريم هذا يدخل في قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) فأجرى الرضاعة مجرى النسب وشبهها به ، فثبت تنزيل ولد الرضاعة وأبي الرضاعة منزلة ولد النسب وأبيه ، فما ثبت للنسب من التحريم ثبت للرضاعة ، فإذا حرمت امرأة الأب والابن وأم المرأة وابنتها من النسب حرمن بالرضاعة . وإذا حرم الجمع بين أختي النسب حرم بين أختي الرضاعة ، هذا تقدير احتجاجهم على التحريم . قال شيخ الإسلام : الله سبحانه حرم سبعا بالنسب وسبعا بالصهر ، كذا قال . قال : ومعلوم أن تحريم الرضاعة لا يسمى صهرا وإنما يحرم منه ما يحرم من النسب ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ابن عباس يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة ) ، وفي رواية : ( ما يحرم من النسب ) . ولم يقل : وما يحرم بالمصاهرة ، ولا ذكره الله سبحانه في كتابه كما ذكر تحريم الصهر ، ولا ذكر تحريم الجمع في الرضاع كما ذكره في النسب ، والصهر قسيم النسب وشقيقه ، قال الله تعالى : ( وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا ) [ الفرقان : 54 ] فالعلاقة بين الناس بالنسب والصهر ، وهما سببا التحريم ، والرضاع فرع على النسب ، ولا تعقل المصاهرة إلا بين الأنساب ، والله تعالى إنما حرم الجمع بين الأختين ، وبين المرأة وعمتها ، وبينها وبين خالتها لئلا يفضي إلى قطيعة الرحم المحرمة . ومعلوم أن الأختين من الرضاع ليس بينهما رحم محرمة في غير النكاح ، ولا ترتب على ما بينهما من أخوة الرضاع حكم قط غير تحريم أحدهما على الآخر ، فلا يعتق عليه بالملك ، ولا يرثه ، ولا يستحق النفقة [ ص: 497 ] عليه ، ولا يثبت له عليه ولاية النكاح ولا الموت ، ولا يعقل عنه ، ولا يدخل في الوصية والوقف على أقاربه وذوي رحمه ، ولا يحرم التفريق بين الأم وولدها الصغير من الرضاعة ، ويحرم من النسب ، والتفريق بينهما في الملك كالجمع بينهما في النكاح سواء ، ولو ملك شيئا من المحرمات بالرضاع لم يعتق عليه بالملك ، وإذا حرمت على الرجل أمه وبنته وأخته وعمته وخالته من الرضاعة لم يلزم أن يحرم عليه أم امرأته التي أرضعت امرأته ، فإنه لا نسب بينه وبينها ولا مصاهرة ولا رضاع ، والرضاعة إذا جعلت كالنسب في حكم لا يلزم أن تكون مثله في كل حكم ، بل ما افترقا فيه من الأحكام أضعاف ما اجتمعا فيه منها ، وقد ثبت جواز الجمع بين اللتين بينهما مصاهرة محرمة ، كما جمع عبد الله بن جعفر بين امرأة علي وابنته من غيرها . وإن كان بينهما تحريم يمنع جواز نكاح أحدها للآخر لو كان ذكرا ، فهذا نظير الأختين من الرضاعة سواء ؛ لأن سبب تحريم النكاح بينهما في أنفسهما ، ليس بينهما وبين الأجنبي منهما الذي لا رضاع بينه وبينهما ولا صهر ، وهذا مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم .
واحتج أحمد بأن عبد الله بن جعفر جمع بين امرأة علي وابنته ، ولم ينكر ذلك أحد ، قال : وجمع البخاري بين بنتي عم في ليلة ، وجمع الحسن بن الحسن بن علي عبد الله بن جعفر بين امرأة علي وابنته ، وقال ابن شبرمة : لا بأس به ، وكرهه الحسن مرة ثم قال : لا بأس به . وكرهه للقطيعة وليس فيه تحريم لقوله عز وجل : ( جابر بن زيد وأحل لكم ما وراء ذلكم ) [ النساء : 24 ] هذا كلام . البخاري
[ ص: 498 ] وبالجملة : فثبوت أحكام النسب من وجه لا يستلزم ثبوتها من كل وجه أو من وجه آخر ، فهؤلاء نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - هن فقط ، لا في المحرمية ، فليس لأحد أن يخلو بهن ولا ينظر إليهن ، بل قد أمرهن الله بالاحتجاب عمن حرم عليه نكاحهن من غير أقاربهن ومن بينهن وبينه رضاع ، فقال تعالى : ( أمهات المؤمنين في التحريم والحرمة وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ) [ الأحزاب : 53 ] ثم هذا الحكم لا يتعدى إلى أقاربهن ألبتة ، فليس بناتهن أخوات المؤمنين يحرمن على رجالهم ، ولا بنوهن إخوة لهم يحرم عليهن بناتهن ، ولا أخواتهن وإخوانهن خالات وأخوالا ، بل هن حلال للمسلمين باتفاق المسلمين ، وقد كانت أم الفضل أخت ميمونة زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت العباس ، وكانت أخت أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها - تحت عائشة الزبير ، وكانت أم عائشة - رضي الله عنها - تحت أبي بكر ، وأم حفصة تحت عمر - رضي الله عنه - وليس لرجل أن يتزوج أمه ، وقد تزوج وإخوته وأولاد عبد الله بن عمر أبي بكر وأولاد أبي سفيان من المؤمنات ، ولو كانوا أخوالا لهن لم يجز أن ينكحوهن ، فلم تنتشر الحرمة من أمهات المؤمنين إلى أقاربهن ، وإلا لزم من ثبوت حكم من أحكام النسب بين الأمة وبينهن ثبوت غيره من الأحكام .
ومما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى في المحرمات : ( وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم ) [ النساء : 23 ] .
ومعلوم أن لفظ الابن إذا أطلق لم يدخل فيه ابن الرضاع ، فكيف إذا قيد بكونه ابن صلب ، وقصد إخراج ابن التبني بهذا لا يمنع إخراج ابن الرضاع ويوجب دخوله ، وقد ثبت في " الصحيح " : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( أمر سهلة بنت سهيل أن سالما مولى أبي حذيفة ؛ ليصير محرما لها ترضع ) فأرضعته بلبن أبي حذيفة زوجها ، وصار ابنها ومحرمها بنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، سواء كان هذا الحكم مختصا بسالم أو عاما كما قالته أم المؤمنين - رضي الله عنها - فبقي عائشة سالم محرما لها لكونها أرضعته وصارت أمه ، ولم يصر محرما لها لكونها امرأة أبيه من [ ص: 499 ] الرضاعة ، فإن هذا لا تأثير فيه لرضاعة سهلة له ، بل لو أرضعته جارية له أو امرأة أخرى صارت سهلة امرأة أبيه ، وإنما التأثير لكونه ولدها نفسها ، وقد علل بهذا في الحديث نفسه ، ولفظه : فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( أرضعيه ) فأرضعته خمس رضعات ، وكان بمنزلة ولدها من الرضاعة ، ولا يمكن دعوى الإجماع في هذه المسألة ، ومن ادعاه فهو كاذب ، فإن سعيد بن المسيب وأبا سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار وعطاء بن يسار وأبا قلابة لم يكونوا يثبتون التحريم بلبن الفحل ، وهو مروي عن الزبير وجماعة من الصحابة ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، وكانوا يرون أن التحريم إنما هو من قبل الأمهات فقط ، فهؤلاء إذا لم يجعلوا المرتضع من لبن الفحل ولدا له ، فإنهم لا يحرموا عليه امرأته ، ولا على الرضيع امرأة الفحل بطريق الأولى ، فعلى قول هؤلاء فلا يحرم على المرأة أبو زوجها من الرضاعة ، ولا ابنه من الرضاعة .
فإن قيل : هؤلاء لم يثبتوا فلم تثبت المصاهرة ؛ لأنها فرع ثبوت بنوة الرضاع ، فإذا لم تثبت له لم يثبت فرعها ، وأما من أثبت بنوة الرضاع من جهة الفحل كما دلت عليه السنة الصحيحة الصريحة وقال به جمهور أهل الإسلام ، فإنه تثبت المصاهرة بهذه البنوة ، فهل قال أحد ممن ذهب إلى التحريم بلبن الفحل : إن زوجة أبيه وابنه من الرضاعة لا تحرم ؟ البنوة بين المرتضع وبين الفحل
قيل : المقصود أن في تحريم هذه نزاعا ، وأنه ليس مجمعا عليه ، وبقي النظر في مأخذه ، هل هو إلغاء لبن الفحل ، وأنه لا تأثير له ، أو إلغاء المصاهرة من جهة الرضاع ، وأنه لا تأثير لها ، وإنما التأثير لمصاهرة النسب ؟
ولا شك أن المأخذ الأول باطل ؛ لثبوت السنة الصريحة بالتحريم بلبن الفحل ، وقد بينا أنه لا يلزم من القول بالتحريم به إثبات المصاهرة به إلا بالقياس ، وقد تقدم أن الفارق بين الأصل والفرع أضعاف أضعاف الجامع ، وأنه لا يلزم من ثبوت حكم من أحكام النسب ثبوت حكم آخر .
[ ص: 500 ] ويدل على هذا أيضا أنه سبحانه لم يجعل أم الرضاع وأخت الرضاعة داخلة تحت أمهاتنا وأخواتنا ، فإنه سبحانه قال : ( حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم ) [ النساء : 23 ] ثم قال : ( وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة ) [ النساء : 23 ] فدل على أن لفظ أمهاتنا عند الإطلاق : إنما يراد به الأم من النسب ، وإذا ثبت هذا فقوله تعالى : ( وأمهات نسائكم ) مثل قوله : ( وأمهاتكم ) إنما هن أمهات نسائنا من النسب فلا يتناول أمهاتهن من الرضاعة ، ولو أريد تحريمهن لقال : وأمهاتهن اللاتي أرضعنهن كما ذكر ذلك في أمهاتنا ، وقد بينا أن قوله : ( يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب ) إنما يدل على أن من حرم على الرجل من النسب حرم عليه نظيره من الرضاعة ، ولا يدل على أن من حرم عليه بالصهر أو بالجمع حرم عليه نظيره من الرضاعة ، بل يدل مفهومه على خلاف ذلك مع عموم قوله : ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) [ النساء 24 ] .