فصل
فإن قيل : فهل يدخل في تحريم بيعها تحريم لشمول اسم الميتة لذلك ؟ قيل : الذي يحرم بيعه منها هو الذي يحرم أكله واستعماله ، كما أشار إليه النبي بقوله : ( بيع عظمها وقرنها وجلدها بعد الدباغ ) . وفي اللفظ الآخر : ( إن الله تعالى إذا حرم شيئا حرم ثمنه ) . فنبه على أن الذي يحرم بيعه يحرم أكله . إذا حرم أكل شيء حرم ثمنه
وأما الجلد إذا دبغ ، فقد صار عينا طاهرة ينتفع في اللبس والفرش ، وسائر وجوه الاستعمال ، فلا يمتنع جواز بيعه ، وقد نص في كتابه القديم على أنه لا يجوز بيعه ، واختلف أصحابه ، فقال الشافعي القفال : لا يتجه هذا إلا بتقدير قول يوافق مالكا في أنه يطهر ظاهره دون باطنه ، وقال بعضهم : لا يجوز بيعه ، وإن طهر ظاهره وباطنه على قوله الجديد ؛ فإنه جزء من الميتة ، حقيقة فلا يجوز بيعه كعظمها ولحمها .
وقال بعضهم : بل يجوز بيعه بعد الدبغ ؛ لأنه عين طاهرة ينتفع بها ، فجاز بيعها كالمذكى ، وقال بعضهم : بل هذا ينبني على أن الدبغ إزالة أو [ ص: 672 ] إحالة ، فإن قلنا : إحالة جاز بيعه ؛ لأنه قد استحال من كونه جزء ميتة إلى عين أخرى ، وإن قلنا : إزالة لم يجز بيعه ؛ لأن وصف الميتة هو المحرم لبيعه ، وذلك باق لم يستحل .
وبنوا على هذا الخلاف جواز أكله ، ولهم فيه ثلاثة أوجه : أكله مطلقا ، وتحريمه مطلقا ، والتفصيل بين جلد المأكول وغير المأكول ، فأصحاب الوجه الأول ، غلبوا حكم الإحالة ، وأصحاب الوجه الثاني ، غلبوا حكم الإزالة ، وأصحاب الوجه الثالث أجروا الدباغ مجرى الذكاة ، فأباحوا بها ما يباح أكله بالذكاة إذا ذكي دون غيره ، والقول بجواز أكله باطل مخالف لصريح السنة ، ولهذا لم يمكن قائله القول به إلا بعد منعه كون الجلد بعد الدبغ ميتة ، وهذا منع باطل ، فإنه جلد ميتة حقيقة ، وحسا وحكما ، ولم يحدث له حياة بالدبغ ترفع عنه اسم الميتة ، وكون الدبغ إحالة باطل حسا ؛ فإن الجلد لم يستحل ذاته وأجزاؤه ، وحقيقته بالدباغ ، فدعوى أن الدباغ إحالة عن حقيقة إلى حقيقة أخرى ، كما تحيل النار الحطب إلى الرماد ، والملاحة ما يلقى فيها من الميتات إلى الملح دعوى باطلة .
وأما أصحاب مالك - رحمه الله - ففي ( المدونة ) لابن القاسم المنع من بيعها وإن دبغت ، وهو الذي ذكره صاحب ( التهذيب ) . وقال المازري : هذا هو مقتضى القول بأنها لا تطهر بالدباغ . قال : وأما إذا فرعنا على أنها تطهر بالدباغ طهارة كاملة ، فإنا نجيز بيعها لإباحة جملة منافعها .
قلت : عن مالك في روايتان . إحداهما : يطهر ظاهره وباطنه ، وبها قال طهارة الجلد المدبوغ وهب ، وعلى هذه الرواية جوز أصحابه بيعه . والثانية - وهي أشهر الروايتين عنه - أنه يطهر طهارة مخصوصة يجوز معها استعماله في اليابسات ، وفي الماء وحده دون سائر المائعات ، قال أصحابه : وعلى هذه الرواية لا يجوز بيعه ، ولا الصلاة فيه ، ولا الصلاة عليه .
[ ص: 673 ] وأما مذهب : فإنه لا يصح عنده الإمام أحمد . وعنه في جوازه بعد الدبغ روايتان ، هكذا أطلقهما الأصحاب ، وهما عندي مبنيتان على اختلاف الرواية عنه في طهارته بعد الدباغ . بيع جلد الميتة قبل دبغه