فصل .
الحكم السادس : ، ويدخل فيه الفاصد والشارط ، وكل من يكون كسبه من إخراج الدم ، ولا يدخل فيه الطبيب ، ولا الكحال ولا البيطار لا في لفظه ولا في معناه ، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ( خبث كسب الحجام أنه حكم بخبثه وأمر صاحبه أن يعلفه ناضحه أو رقيقه ) وصح عنه أنه ( ) . احتجم وأعطى الحجام أجره
[ ص: 701 ] فأشكل الجمع بين هذين على كثير من الفقهاء ، وظنوا أن النهي عن كسبه منسوخ بإعطائه أجره ، وممن سلك هذا المسلك ، فقال في احتجاجه للكوفيين في إباحة الطحاوي : لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب ، ثم قال : ( بيع الكلاب ، وأكل أثمانها ) ، ثم رخص في كلب الصيد ، وكلب الغنم ، وكان بيع الكلاب إذ ذاك والانتفاع به حراما ، وكان قاتله مؤديا للفرض عليه في قتله ، ثم نسخ ذلك ، وأباح الاصطياد به ، فصار كسائر الجوارح في جواز بيعه ، قال : ومثل ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام ، وقال : ( ما لي وللكلاب ) ثم أعطى الحجام أجره ، وكان ذلك ناسخا لمنعه وتحريمه ونهيه . انتهى كلامه . كسب الحجام خبيث
وأسهل ما في هذه الطريقة أنها دعوى مجردة لا دليل عليها ، فلا تقبل ، كيف وفي الحديث نفسه ما يبطلها ؛ فإنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب ، ثم قال : ( ) ثم رخص لهم في كلب الصيد . ما بالهم وبال الكلاب ؟
( وقال : ابن عمر ، وقال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب إلا كلب الصيد ، أو كلب غنم أو ماشية : عبد الله بن مغفل ) أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب ، ثم قال : ما بالهم وبال الكلاب ؟ ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم
والحديثان في " الصحيح " فدل على أن وقعت بعد الأمر بقتل الكلاب ، فالكلب الذي أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في اقتنائه هو الذي حرم ثمنه ، وأخبر أنه خبيث دون الكلب الذي أمر بقتله ، فإن المأمور بقتله غير مستبقى حتى تحتاج الأمة إلى بيان حكم ثمنه ، ولم تجر العادة ببيعه وشرائه بخلاف الكلب المأذون في اقتنائه ، فإن الحاجة داعية إلى بيان حكم ثمنه أولى من حاجتهم إلى بيان ما لم تجر عادتهم ببيعه ، بل قد أمروا بقتله . الرخصة في كلب الصيد وكلب الغنم
[ ص: 702 ] ومما يبين هذا أنه صلى الله عليه وسلم ذكر الأربعة التي تبذل فيها الأموال عادة ؛ لحرص النفوس عليها ، وهي ما تأخذه الزانية والكاهن والحجام وبائع الكلب ، فكيف يحمل هذا على كلب لم تجر العادة ببيعه ، وتخرج منه الكلاب التي إنما جرت العادة ببيعها ، هذا من الممتنع البين امتناعه ؟ وإذا تبين هذا ظهر فساد ما شبه به من نسخ خبث أجرة الحجام ، بل دعوى النسخ فيها أبعد .
وأما إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم الحجام أجره ، فلا يعارض قوله : ( ) ؛ فإنه لم يقل : إن إعطاءه خبيث ، بل إعطاؤه إما واجب ، وإما مستحب ، وإما جائز ، ولكن هو خبيث بالنسبة إلى الآخذ ، وخبثه بالنسبة إلى أكله ، فهو خبيث الكسب ، ولم يلزم من ذلك تحريمه ؛ فقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الثوم والبصل خبيثين مع إباحة أكلهما ، ولا يلزم من إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم الحجام أجره حل أكله فضلا عن كون أكله طيبا ؛ فإنه قال : ( كسب الحجام خبيث ) ، والنبي صلى الله عليه وسلم قد كان يعطي المؤلفة قلوبهم من مال الزكاة والفيء مع غناهم ، وعدم حاجتهم إليه ؛ ليبذلوا من الإسلام والطاعة ما يجب عليهم بذله بدون العطاء ، ولا يحل لهم توقف بذله على الأخذ ، بل يجب عليهم المبادرة إلى بذله بلا عوض . إني لأعطي الرجل العطية يخرج بها يتأبطها نارا
وهذا أصل معروف من أصول الشرع أن العقد والبذل قد يكون جائزا ، أو مستحبا ، أو واجبا من أحد الطرفين ، مكروها أو محرما من الطرف الآخر ، فيجب على الباذل أن يبذل ، ويحرم على الآخذ أن يأخذه .
وبالجملة فخبث أجر الحجام من جنس خبث أكل الثوم والبصل ، لكن هذا خبيث الرائحة ، وهذا خبيث لكسبه .
فإن قيل : فما ؟ قيل : هذا فيه ثلاثة أقوال للفقهاء . أطيب المكاسب وأحلها
أحدها : أنه كسب التجارة .
[ ص: 703 ] والثاني : أنه عمل اليد في غير الصنائع الدنيئة كالحجامة ونحوها .
والثالث : أنه الزراعة ، ولكل قول من هذه وجه من الترجيح أثرا ونظرا ، والراجح أن أحلها الكسب الذي جعل منه رزق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كسب الغانمين وما أبيح لهم على لسان الشارع ، وهذا الكسب قد جاء في القرآن مدحه أكثر من غيره ، وأثني على أهله ما لم يثن على غيرهم ؛ ولهذا اختاره الله لخير خلقه ، وخاتم أنبيائه ورسله حيث يقول : ( ) ، وهو الرزق المأخوذ بعزة وشرف وقهر لأعداء الله ، وجعل أحب شيء إلى الله ، فلا يقاومه كسب غيره . والله أعلم . بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له ، وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري