فصل
وأما الذين قالوا : إنه أحرم إحراما مطلقا ، لم يعين فيه نسكا ، ثم عينه بعد ذلك لما جاءه القضاء وهو بين الصفا والمروة ، وهو أحد أقوال - رحمه الله - نص عليه في كتاب " اختلاف الحديث " . قال : وثبت أنه خرج ينتظر القضاء ، فنزل عليه القضاء وهو ما بين الشافعي الصفا والمروة ، فأمر أصحابه أن من كان منهم أهل ولم يكن معه هدي أن يجعله عمرة ، ثم قال : ومن وصف انتظار النبي - صلى الله عليه وسلم - القضاء ، إذ لم يحج من المدينة بعد نزول الفرض طلبا للاختيار فيما وسع الله من الحج والعمرة ، فيشبه أن يكون أحفظ ؛ لأنه قد أتي بالمتلاعنين ، فانتظر القضاء ، كذلك حفظ عنه في الحج ينتظر القضاء .
وعذر أرباب هذا القول ما ثبت في " الصحيحين " عن رضي الله عنها ، قالت : ( عائشة ) ، وفي رواية عنها : ( خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نذكر حجا ولا عمرة " ، وفي لفظ : " يلبي لا يذكر حجا ولا عمرة مكة أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحل ) ، وقال خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نرى إلا الحج حتى إذا دنونا من [ ص: 147 ] : طاووس الصفا والمروة ، فأمر أصحابه من كان منهم أهل بالحج ولم يكن معه هدي أن يجعلها عمرة . .. الحديث . خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة لا يسمي حجا ولا عمرة ينتظر القضاء ، فنزل عليه القضاء وهو بين
وقال جابر في حديثه الطويل في سياق : ( حجة النبي صلى الله عليه وسلم ) ، فأخبر فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد ، ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش ، وعن يمينه مثل ذلك ، وعن يساره مثل ذلك ، ومن خلفه مثل ذلك ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا ، وعليه ينزل القرآن وهو يعلم تأويله ، فما عمل به من شيء عملنا به ، فأهل بالتوحيد " لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك . وأهل الناس بهذا الذي يهلون به ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته جابر أنه لم يزد على هذه التلبية ، ولم يذكر أنه أضاف إليها حجا ولا عمرة ، ولا قرانا ، وليس في شيء من هذه الأعذار ما يناقض أحاديث تعيينه النسك الذي أحرم به في الابتداء ، وأنه القران .
فأما حديث ، فهو مرسل لا يعارض به الأساطين المسندات ، ولا يعرف اتصاله بوجه صحيح ولا حسن . ولو صح ، فانتظاره للقضاء كان فيما بينه وبين الميقات ، فجاءه القضاء وهو بذلك الوادي ، ( طاووس ) ، فهذا القضاء الذي انتظره ، جاءه قبل الإحرام ، فعين له القران . وقول أتاه آت من ربه تعالى فقال : صل في هذا الوادي المبارك ، وقل : عمرة في حجة : نزل عليه القضاء وهو بين طاووس الصفا والمروة ، هو قضاء آخر غير القضاء الذي نزل عليه بإحرامه ، فإن ذلك كان بوادي العقيق ، وأما القضاء الذي نزل عليه بين الصفا والمروة ، فهو قضاء الفسخ [ ص: 148 ] الذي أمر به الصحابة إلى العمرة ، فحينئذ أمر كل من لم يكن معه هدي منهم أن يفسخ حجه إلى عمرة ، وقال : ( ) ، وكان هذا أمر حتم بالوحي ، فإنهم لما توقفوا فيه قال : " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ، ولجعلتها عمرة " . انظروا الذي آمركم به فافعلوه
فأما قول : خرجنا لا نذكر حجا ولا عمرة ، فهذا إن كان محفوظا عنها ، وجب حمله على ما قبل الإحرام ، وإلا ناقض سائر الروايات الصحيحة عنها ، أن منهم من أهل عند الميقات بحج ، ومنهم من أهل بعمرة ، وأنها ممن أهل بعمرة . وأما قولها : نلبي لا نذكر حجا ولا عمرة ، فهذا في ابتداء الإحرام ، ولم تقل : إنهم استمروا على ذلك إلى عائشة مكة ، هذا باطل قطعا فإن الذين سمعوا إحرام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما أهل به ، شهدوا على ذلك ، وأخبروا به ، ولا سبيل إلى رد رواياتهم . ولو صح عن ذلك ، لكان غايته أنها لم تحفظ إهلالهم عند الميقات ، فنفته وحفظه غيرها من الصحابة فأثبته ، والرجال بذلك أعلم من النساء . عائشة
وأما قول جابر رضي الله عنه : وأهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتوحيد ، فليس فيه إلا إخباره عن صفة تلبيته ، وليس فيه نفي لتعيينه النسك الذي أحرم به بوجه من الوجوه . وبكل حال ، ولو كانت هذه الأحاديث صريحة في نفي التعيين ، لكانت أحاديث أهل الإثبات أولى بالأخذ منها ؛ لكثرتها ، وصحتها ، واتصالها ، وأنها مثبتة مبينة متضمنة لزيادة خفيت على من نفى ، وهذا بحمد الله واضح ؛ وبالله التوفيق .