فصل
وإذا تأملت أحوال هذا الخلق ، رأيت هذا الاختيار والتخصيص فيه دالا على ربوبيته تعالى ووحدانيته وكمال حكمته وعلمه وقدرته ، وأنه الله الذي لا إله إلا هو فلا شريك له يخلق كخلقه ، ويختار كاختياره ، ويدبر كتدبيره ، فهذا الاختيار والتدبير والتخصيص المشهود أثره في هذا العالم من أعظم آيات ربوبيته ، وأكبر شواهد وحدانيته ، وصفات كماله ، وصدق رسله ، فنشير منه إلى يسير يكون منبها على ما وراءه دالا على ما سواه .
سبعا فاختار العليا منها فجعلها مستقر المقربين من ملائكته ، واختصها بالقرب من كرسيه ومن عرشه ، وأسكنها من شاء من خلقه ، فلها مزية وفضل على سائر السماوات ، ولو لم يكن إلا قربها منه تبارك وتعالى . فخلق الله السماوات
وهذا التفضيل والتخصيص مع تساوي مادة السماوات من أبين الأدلة على كمال قدرته وحكمته ، وأنه يخلق ما يشاء ويختار .
[ ص: 44 ] ومن هذا ، وتخصيصها بأن جعل عرشه سقفها ، وفي بعض الآثار : " إن الله سبحانه غرسها بيده واختارها لخيرته من خلقه " . تفضيله سبحانه جنة الفردوس على سائر الجنان
ومن هذا اختياره من الملائكة المصطفين منهم على سائرهم ، كجبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( جبريل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ) . اللهم رب
فذكر هؤلاء الثلاثة من الملائكة لكمال اختصاصهم ، واصطفائهم ، وقربهم من الله ، وكم من ملك غيرهم في السماوات ، فلم يسم إلا هؤلاء الثلاثة . فجبريل : صاحب الوحي الذي به حياة القلوب والأرواح ، وميكائيل : صاحب القطر الذي به حياة الأرض والحيوان والنبات ، وإسرافيل : صاحب الصور الذي إذا نفخ فيه أحيت نفخته بإذن الله الأموات ، وأخرجتهم من قبورهم .
، وكذلك اختياره سبحانه للأنبياء من ولد آدم عليه وعليهم الصلاة [ ص: 45 ] والسلام ، وهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، واختياره الرسل منهم ، وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر ، على ما في حديث أبي ذر الذي رواه أحمد ، في " صحيحه " ، واختياره أولي العزم منهم ، وهم خمسة المذكورون في سورة (الأحزاب) و(الشورى) في قوله تعالى: ( وابن حبان وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ) [ الأحزاب : 7 ] ، وقال تعالى: ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) [ الشورى : 13 ] ، واختار منهم الخليلين إبراهيم ومحمدا صلى الله عليهما وآلهما وسلم .
ومن هذا إسماعيل من أجناس بني آدم ، ثم اختار منهم بني كنانة من خزيمة ، ثم اختار من ولد كنانة قريشا ، ثم اختار من اختياره سبحانه ولد قريش بني هاشم ، ثم اختار من بني هاشم سيد ولد آدم محمدا صلى الله عليه وسلم .
[ ص: 46 ] وكذلك اختار أصحابه من جملة العالمين ، واختار منهم السابقين الأولين ، واختار منهم أهل بدر ، وأهل بيعة الرضوان ، واختار لهم من الدين أكمله ، ومن الشرائع أفضلها ، ومن الأخلاق أزكاها وأطيبها وأطهرها .
، كما في " مسند الإمام واختار أمته صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم أحمد " وغيره من حديث ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة أنتم موفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله ) . قال علي بن المديني وأحمد : حديث عن أبيه عن جده صحيح . بهز بن حكيم
وظهر أثر هذا الاختيار في أعمالهم ، وأخلاقهم ، وتوحيدهم ، ومنازلهم في الجنة ، ومقاماتهم في الموقف ، فإنهم أعلى من الناس على تل فوقهم يشرفون عليهم ، وفي من حديث الترمذي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( بريدة بن الحصيب الأسلمي ) قال أهل الجنة عشرون ومائة صف ، ثمانون منها من هذه الأمة ، وأربعون من سائر الأمم : هذا حديث حسن . والذي في " الصحيح " من حديث الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بعث النار أبي سعيد الخدري ، ولم يزد على ذلك . فإما أن يقال : هذا أصح ، وإما أن يقال : ( والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا شطر أهل ) [ ص: 47 ] ( الجنة ) ، فأعلمه ربه فقال : ( إن النبي صلى الله عليه وسلم طمع أن تكون أمته شطر أهل الجنة ) ، فلا تنافي بين الحديثين ، والله أعلم . إنهم ثمانون صفا من مائة وعشرين صفا
ومن تفضيل الله لأمته واختياره لها أنه وهبها من العلم والحلم ما لم يهبه لأمة سواها ، وفي " مسند " وغيره من حديث البزار قال : سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول : ( أبي الدرداء لعيسى ابن مريم : إني باعث من بعدك أمة إن أصابهم ما يحبون حمدوا وشكروا ، وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا ، ولا حلم ولا علم ، قال : يا رب ، كيف هذا ولا حلم ولا علم ؟ قال : أعطيهم من حلمي وعلمي ) . إن الله تعالى قال