، والخلق متفاوتون في منازلهم عند الله تفاوتهم في مراتب الجهاد ، ولهذا كان وأكمل الخلق عند الله من كمل مراتب الجهاد كلها خاتم أنبيائه ورسله ، فإنه كمل مراتب الجهاد ، وجاهد في الله حق جهاده ، وشرع في الجهاد من حين بعث إلى أن توفاه الله عز وجل ، فإنه لما نزل عليه : ( أكمل الخلق وأكرمهم على الله ياأيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر ) [ المدثر : 1 - 4 ] شمر عن ساق الدعوة ، وقام في ذات الله أتم قيام ، ودعا إلى الله ليلا ونهارا ، وسرا وجهارا ، ولما نزل عليه : ( فاصدع بما تؤمر ) [ الحجر : 94 ] فصدع بأمر الله لا تأخذه فيه لومة لائم ، فدعا إلى الله الصغير والكبير والحر والعبد والذكر والأنثى والأحمر والأسود والجن والإنس .
ولما صدع بأمر الله وصرح لقومه بالدعوة ، وناداهم بسب آلهتهم ، [ ص: 12 ] وعيب دينهم ، اشتد أذاهم له ، ولمن استجاب له من أصحابه ، ونالوه ونالوهم بأنواع الأذى ، وهذه سنة الله عز وجل في خلقه كما قال تعالى : ( ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ) [ فصلت : 43 ] وقال : ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن ) [ الأنعام : 112 ] وقال : ( كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون ) [ الذاريات : 52- 53 ] .
فعزى سبحانه نبيه بذلك ، وأن له أسوة بمن تقدمه من المرسلين ، وعزى أتباعه بقوله : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ) [ البقرة : 214 ] .
وقوله : ( الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين ) [ العنكبوت : 1 - 11 ] .
[ ص: 13 ] فليتأمل العبد سياق هذه الآيات ، وما تضمنته من العبر وكنوز الحكم ، فإن الناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين ، إما أن يقول أحدهم : آمنا ، وإما ألا يقول ذلك ، بل يستمر على السيئات والكفر ، فمن قال : آمنا امتحنه ربه وابتلاه وفتنه ، والفتنة الابتلاء والاختبار ليتبين الصادق من الكاذب ، ومن لم يقل آمنا فلا يحسب أنه يعجز الله ويفوته ويسبقه ، فإنه إنما يطوي المراحل في يديه .
وكيف يفر المرء عنه بذنبه إذا كان تطوى في يديه المراحل
فمن آمن بالرسل وأطاعهم عاداه أعداؤهم وآذوه فابتلي بما يؤلمه ، وإن لم يؤمن بهم ولم يطعهم عوقب في الدنيا والآخرة ، فحصل له ما يؤلمه ، وكان هذا المؤلم له أعظم ألما وأدوم من ألم اتباعهم ، ، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء ، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة ، والمعرض عن الإيمان تحصل له اللذة ابتداء ، ثم يصير إلى الألم الدائم . وسئل فلا بد من حصول الألم لكل نفس آمنت أو رغبت عن الإيمان رحمه الله أيما أفضل للرجل ، أن يمكن أو يبتلى ؟ فقال : لا يمكن حتى يبتلى ، والله تعالى ابتلى أولي العزم من الرسل ، فلما صبروا مكنهم ، فلا يظن أحد أنه يخلص من الألم البتة ، وإنما يتفاوت أهل الآلام في العقول ، فأعقلهم من باع ألما مستمرا عظيما بألم منقطع يسير ، وأشقاهم من باع الألم المنقطع اليسير بالألم العظيم المستمر . الشافعي
فإن قيل : كيف يختار العاقل هذا ؟ قيل : الحامل له على هذا النقد والنسيئة .
والنفس موكلة بحب العاجل
( كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة ) [ القيامة : 20 ] ( إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا ) [ الدهر : 27 ] ، وهذا يحصل لكل أحد ، فإن الإنسان مدني بالطبع ، لا بد له أن يعيش مع الناس ، والناس لهم إرادات وتصورات ، فيطلبون منه أن يوافقهم عليها ، فإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه ، وإن [ ص: 14 ] وافقهم ، حصل له الأذى والعذاب ، تارة منهم وتارة من غيرهم ، كمن عنده دين وتقى حل بين قوم فجار ظلمة ولا يتمكنون من فجورهم وظلمهم إلا بموافقته لهم ، أو سكوته عنهم ، فإن وافقهم أو سكت عنهم سلم من شرهم في الابتداء ، ثم يتسلطون عليه بالإهانة والأذى أضعاف ما كان يخافه ابتداء لو أنكر عليهم وخالفهم ، وإن سلم منهم فلا بد أن يهان ويعاقب على يد غيرهم ، فالحزم كل الحزم في الأخذ بما قالت أم المؤمنين عائشة لمعاوية : ( من كفاه الله مؤنة الناس ، ومن أرضى الله بسخط الناس لم يغنوا عنه من الله شيئا ) . أرضى الناس بسخط الله
ومن تأمل أحوال العالم رأى هذا كثيرا ، فيمن يعين الرؤساء على أغراضهم الفاسدة ، وفيمن يعين أهل البدع على بدعهم هربا من عقوبتهم ، فمن هداه الله وألهمه رشده ووقاه شر نفسه امتنع من الموافقة على فعل المحرم ، وصبر على عدوانهم ، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة كما كانت للرسل وأتباعهم كالمهاجرين والأنصار ، ومن ابتلي من العلماء والعباد وصالحي الولاة والتجار ، وغيرهم .
ولما كان الألم لا محيص منه البتة ، عزى الله - سبحانه - من اختار الألم اليسير المنقطع على الألم العظيم المستمر ، بقوله : ( من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم ) [ العنكبوت : 5 ] فضرب لمدة هذا الألم أجلا ، لا بد أن يأتي ، وهو يوم لقائه ، فيلتذ العبد أعظم اللذة [ ص: 15 ] بما تحمل من الألم من أجله وفي مرضاته ، وتكون لذته وسروره وابتهاجه بقدر ما تحمل من الألم في الله ولله ، وأكد هذا العزاء والتسلية برجاء لقائه ليحمل العبد اشتياقه إلى لقاء ربه ووليه على تحمل مشقة الألم العاجل ، بل ربما غيبه الشوق إلى لقائه عن شهود الألم والإحساس به ، ولهذا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه الشوق إلى لقائه ، فقال في الدعاء الذي رواه أحمد : ( وابن حبان ) . اللهم إني أسألك بعلمك الغيب ، وقدرتك على الخلق ، أحيني إذا كانت الحياة خيرا لي ، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي ، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة ، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضى ، وأسألك القصد في الفقر والغنى ، وأسألك نعيما لا ينفد ، وأسألك قرة عين لا تنقطع ، وأسألك الرضى بعد القضاء ، وأسألك برد العيش بعد الموت ، وأسألك لذة النظر إلى وجهك ، وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ، ولا فتنة مضلة ، اللهم زينا بزينة الإيمان ، واجعلنا هداة مهتدين
فالشوق يحمل المشتاق على الجد في السير إلى محبوبه ، ويقرب عليه الطريق ، ويطوي له البعيد ، ويهون عليه الآلام والمشاق ، وهو من أعظم نعمة أنعم الله بها على عبده ، ولكن لهذه النعمة أقوال وأعمال هما السبب الذي تنال به ، والله سبحانه سميع لتلك الأقوال ، عليم بتلك الأفعال ، وهو عليم بمن يصلح لهذه النعمة ويشكرها ويعرف قدرها ويحب المنعم عليه ، [ ص: 16 ] فتصلح عنده هذه النعمة ، ويصلح بها كما قال تعالى : ( وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين ) [ الأنعام : 53 ] ، فإذا فاتت العبد نعمة من نعم ربه فليقرأ على نفسه : ( أليس الله بأعلم بالشاكرين ) .
ثم عزاهم تعالى بعزاء آخر ، وهو أن جهادهم فيه إنما هو لأنفسهم ، وثمرته عائدة عليهم ، وأنه غني عن العالمين ، ومصلحة هذا الجهاد ترجع إليهم لا إليه سبحانه ، ثم أخبر أنه يدخلهم بجهادهم وإيمانهم في زمرة الصالحين .
ثم أخبر عن حال الداخل في الإيمان بلا بصيرة ، وأنه إذا أوذي في الله جعل فتنة الناس له كعذاب الله ، وهي أذاهم له ، ونيلهم إياه بالمكروه والألم الذي لا بد أن يناله الرسل وأتباعهم ممن خالفهم ، جعل ذلك في فراره منهم وتركه السبب الذي ناله كعذاب الله الذي فر منه المؤمنون بالإيمان ، فالمؤمنون لكمال بصيرتهم فروا من ألم عذاب الله إلى الإيمان ، وتحملوا ما فيه من الألم الزائل المفارق عن قريب ، وهذا لضعف بصيرته فر من ألم عذاب أعداء الرسل إلى موافقتهم ومتابعتهم ، ففر من ألم عذابهم إلى ألم عذاب الله ، فجعل ألم فتنة الناس في الفرار منه بمنزلة ألم عذاب الله ، وغبن كل الغبن إذ استجار من الرمضاء بالنار ، وفر من ألم ساعة إلى ألم الأبد ، وإذا نصر الله جنده وأولياءه قال : إني كنت معكم ، والله عليم بما انطوى عليه صدره من النفاق .
والمقصود : أن الله سبحانه اقتضت حكمته أنه لا بد أن يمتحن النفوس ويبتليها ، فيظهر بالامتحان طيبها من خبيثها ، ومن يصلح لموالاته وكراماته ومن لا يصلح ، وليمحص النفوس التي تصلح له ، ويخلصها بكير الامتحان ، كالذهب الذي لا يخلص ولا يصفو من غشه إلا بالامتحان ، إذ النفس في الأصل جاهلة ظالمة ، وقد حصل لها بالجهل والظلم من الخبث ما يحتاج [ ص: 17 ] خروجه إلى السبك والتصفية ، فإن خرج في هذه الدار وإلا ففي كير جهنم ، فإذا هذب العبد ونقي أذن له في دخول الجنة .