فصل
وكان يصلي إلى قبلة بيت المقدس ، ويحب أن يصرف إلى الكعبة ، وقال لجبريل : ( وددت أن يصرف الله وجهي عن قبلة اليهود ، فقال : إنما أنا عبد ، فادع ربك واسأله ، فجعل يقلب وجهه في السماء يرجو ذلك ، حتى أنزل الله عليه : ( قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام ) [ البقرة : 144 ] ) وذلك بعد ستة عشر شهرا من مقدمه المدينة قبل وقعة بدر بشهرين .
قال محمد بن سعد : أخبرنا هاشم بن القاسم ، قال : أنبأنا أبو معشر ، عن ، قال : ( محمد بن كعب القرظي ما خالف نبي نبيا قط في قبلة ولا في سنة ، إلا أن [ ص: 60 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل بيت المقدس حين قدم المدينة ستة عشر شهرا ، ثم قرأ : ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك ) ) [ الشورى : 13 ] .
وكان لله في حكم عظيمة ، ومحنة للمسلمين والمشركين جعل القبلة إلى بيت المقدس ثم تحويلها إلى الكعبة واليهود والمنافقين .
فأما المسلمون فقالوا : سمعنا وأطعنا وقالوا : ( آمنا به كل من عند ربنا ) [ آل عمران : 7 ] وهم الذين هدى الله ، ولم تكن كبيرة عليهم .
وأما المشركون فقالوا : كما رجع إلى قبلتنا ، يوشك أن يرجع إلى ديننا ، وما رجع إليها إلا أنه الحق .
وأما اليهود فقالوا : خالف قبلة الأنبياء قبله ، ولو كان نبيا لكان يصلي إلى قبلة الأنبياء .
وأما المنافقون فقالوا : ما يدري محمد أين يتوجه ، إن كانت الأولى حقا فقد تركها ، وإن كانت الثانية هي الحق فقد كان على باطل ، وكثرت أقاويل السفهاء من الناس ، وكانت كما قال الله تعالى : ( وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله ) [ البقرة : 143 ] وكانت محنة من الله امتحن بها عباده ليرى من يتبع الرسول منهم ممن ينقلب على عقبيه .
ولما كان أمر القبلة وشأنها عظيما ، وطأ - سبحانه - قبلها أمر النسخ وقدرته عليه ، وأنه يأتي بخير من المنسوخ أو مثله ، ثم عقب ذلك بالتوبيخ لمن تعنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينقد له ، ثم ذكر بعده اختلاف اليهود والنصارى ، وشهادة بعضهم على بعض بأنهم ليسوا على شيء ، وحذر عباده المؤمنين من موافقتهم واتباع أهوائهم ، ثم ذكر كفرهم وشركهم به ، وقولهم : إن له ولدا ، سبحانه وتعالى عما يقولون علوا ، ثم أخبر أن له المشرق والمغرب ، وأينما يولي [ ص: 61 ] عباده وجوههم فثم وجهه ، وهو الواسع العليم ، فلعظمته وسعته وإحاطته أينما يوجه العبد ، فثم وجه الله .
ثم أخبر أنه لا يسأل رسوله عن أصحاب الجحيم الذين لا يتابعونه ولا يصدقونه ، ثم أعلمه أن ، وأنه إن فعل وقد أعاذه الله من ذلك فما له من الله من ولي ولا نصير ، ثم ذكر أهل الكتاب من اليهود والنصارى لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم أهل الكتاب بنعمته عليهم ، وخوفهم من بأسه يوم القيامة ، ثم ذكر خليله باني بيته الحرام ، وأثنى عليه ومدحه ، وأخبر أنه جعله إماما للناس يأتم به أهل الأرض ، ثم ذكر بيته الحرام وبناء خليله له ، وفي ضمن هذا أن باني البيت كما هو إمام للناس فكذلك البيت الذي بناه إمام لهم ، ثم أخبر أنه لا يرغب عن ملة هذا الإمام إلا أسفه الناس ، ثم أمر عباده أن يأتموا برسوله الخاتم ، ويؤمنوا بما أنزل إليه وإلى إبراهيم وإلى سائر النبيين ، ثم رد على من قال : إن إبراهيم وأهل بيته كانوا هودا أو نصارى ، وجعل هذا كله توطئة ومقدمة بين يدي تحويل القبلة ، ومع هذا كله فقد كبر ذلك على الناس إلا من هدى الله منهم ، وأكد سبحانه هذا الأمر مرة بعد مرة بعد ثالثة ، وأمر به رسوله حيثما كان ومن حيث خرج ، وأخبر أن الذي يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم هو الذي هداهم إلى هذه القبلة ، وأنها هي القبلة التي تليق بهم ، وهم أهلها لأنها أوسط القبل وأفضلها ، وهم أوسط الأمم وخيارهم ، فاختار أفضل القبل لأفضل الأمم ، كما اختار لهم أفضل الرسل وأفضل الكتب ، وأخرجهم في خير القرون ، وخصهم بأفضل الشرائع ، ومنحهم خير الأخلاق ، وأسكنهم خير الأرض ، وجعل منازلهم في الجنة خير المنازل ، وموقفهم في القيامة خير المواقف ، فهم على تل عال والناس تحتهم ، فسبحان من يختص برحمته من يشاء ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم .
وأخبر سبحانه أنه فعل ذلك لئلا يكون للناس عليهم حجة ، ولكن الظالمون الباغون يحتجون عليهم بتلك الحجج التي ذكرت ، ولا يعارض الملحدون الرسل [ ص: 62 ] إلا بها وبأمثالها من الحجج الداحضة ، وكل من قدم على أقوال الرسول سواها فحجته من جنس حجج هؤلاء .
وأخبر سبحانه أنه فعل ذلك ليتم نعمته عليهم وليهديهم ، ثم ذكرهم نعمه عليهم بإرسال رسوله إليهم ، وإنزال كتابه عليهم ؛ ليزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون ، ثم أمرهم بذكره وبشكره ، إذ بهذين الأمرين يستوجبون إتمام نعمه والمزيد من كرامته ، ويستجلبون ذكره لهم ومحبته لهم ، ثم أمرهم بما لا يتم لهم ذلك إلا بالاستعانة به ، وهو الصبر والصلاة ، وأخبرهم أنه مع الصابرين .