فصل
فلما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، وأيده الله بنصره بعباده المؤمنين الأنصار ، وألف بين قلوبهم بعد العداوة والإحن التي كانت بينهم ، فمنعته أنصار الله وكتيبة الإسلام من الأسود والأحمر ، وبذلوا نفوسهم دونه ، وقدموا محبته على محبة الآباء والأبناء والأزواج ، وكان أولى بهم من أنفسهم ، رمتهم العرب واليهود عن قوس واحدة ، وشمروا لهم عن ساق العداوة والمحاربة ، وصاحوا بهم من كل جانب ، والله سبحانه يأمرهم بالصبر والعفو والصفح حتى قويت الشوكة ، [ ص: 63 ] واشتد الجناح ، فأذن لهم حينئذ في القتال ، ولم يفرضه عليهم ، فقال تعالى : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ) [ الحج : 39 ] .
وقد قالت طائفة : إن هذا الإذن كان بمكة ، والسورة مكية ، وهذا غلط لوجوه :
أحدها : أن الله لم يأذن بمكة لهم في القتال ، ولا كان لهم شوكة يتمكنون بها من القتال بمكة .
الثاني : أن سياق الآية يدل على أن الإذن بعد الهجرة وإخراجهم من ديارهم فإنه قال : ( الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ) [ الحج : 40 ] وهؤلاء هم المهاجرون .
الثالث : قوله تعالى : ( هذان خصمان اختصموا في ربهم ) [ الحج : 19 ] نزلت في الذين تبارزوا يوم بدر من الفريقين .
الرابع : أنه قد خاطبهم في آخرها بقوله : ( ياأيها الذين آمنوا ) والخطاب بذلك كله مدني ، فأما الخطاب ( ياأيها الناس ) فمشترك .
الخامس : أنه أمر فيها بالجهاد الذي يعم الجهاد باليد وغيره ، ولا ريب أن ، فأما الأمر بالجهاد المطلق إنما كان بعد الهجرة فأمر به في جهاد الحجة مكة بقوله : ( فلا تطع الكافرين وجاهدهم به ) أي : بالقرآن ( جهادا كبيرا ) [ الفرقان : 52 ] فهذه سورة مكية ، والجهاد فيها هو التبليغ ، وجهاد الحجة ، وأما الجهاد المأمور به في ( سورة الحج فيدخل فيه الجهاد بالسيف .
السادس : أن الحاكم روى في " مستدركه " من حديث عن الأعمش مسلم البطين ، عن ، عن سعيد بن جبير قال : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن عباس مكة [ ص: 64 ] قال أبو بكر : أخرجوا نبيهم ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، ليهلكن فأنزل الله عز وجل : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ) [ الحج : 39 ] وهي . وإسناده على شرط " الصحيحين " وسياق السورة يدل على أن فيها المكي والمدني ، فإن قصة إلقاء الشيطان في أمنية الرسول مكية ، والله أعلم . أول آية نزلت في القتال